السياسي – في السجون التي تُحجب فيها الشمس وتُغلق الأبواب على الأنفاس، عاش الأسرى الفلسطينيون فصلًا جديدًا من الحرب، حرب بلا صواريخ ولا جبهات، لكنها أشدّ قسوة من ركام القصف.
من هناك، من الزنازين التي تبتلع الضوء، خرج المقدسي محمد شماسنة أحد الأسرى المحررين في صفقة طوفان الأحرار 3 ليحمل على صوته حكاية العتمة والوجع، كاشفًا عما جرى خلف جدرانٍ صارت شاهدة على ما يمكن وصفه بـ “القتل البطيء”.
ومنذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 وثّقت منظمات حقوقية نمطًا متكررًا من العزل القسري وقطع الاتصالات وحرمان الأسرى من المعلومات والكتب والأدوات الثقافية، ما يحوّل الزنزانة إلى بيئة تهدف إلى كسر الإطار الزمني للإنسان وإفقاد المغلوب القدرة على المقاومة النفسية.
تقارير أممية ومحلية وصفت هذه الإجراءات بأنها جزء من سياسة ممنهجة للضغط النفسي (حجب الأخبار، تقليص ساعات الكهرباء والإضاءة، وتقييد الحمّامات) والتي ترافقها ممارسات إذلالية متكررة أثناء عمليات “العدد” والتفتيش.
“اعتداءات جسدية”..
يتحدث “شماسنة” بصوتٍ يختلط فيه الهدوء بالمرارة، عن سجونٍ تحوّلت بعد السابع من أكتوبر إلى مختبرٍ للقمع الممنهج: “سلطات الاحتلال قطعت كل سبل الاتصال بالعالم الخارجي، وأطفأت الإضاءة، وصادرت أجهزة الراديو والكتب، حتى بات الأسير لا يعرف ليلًا من نهار، ولا يسمع خبرًا عن عائلته أو قضيته” كان العزل، كما يروي، سلاحًا نفسيًا أشد وطأة من القيود الحديدية، لأنّه يُجرّد الإنسان من معنى الزمن والوجود.
ويروي شماسنة تفاصيل الاعتداءات الجسدية التي نفذتها وحدات القمع داخل الزنازين وكأنها معركة حقيقية، فيقول: “كانوا يدخلون علينا الكلاب، مش أي كلاب، ضخمة، مدرّبة على الهجوم، واحد من الجيش دخّل مخلب الكلب في ركبته، تورمت والتهبت، وما عالجوه، استشهد بسبب جرح كلب”.
في كلماته تختصر القسوة بكاملها أجساد مقيّدة، ودماء تسيل داخل الزنازين، فيما يقف السجّانون يتباهون بما يسمّونه “ضبط النظام”، يضيف “شماسنة” أن بين الضحايا كان الأسير خالد الشويش، وهو معاق لا يستطيع الوقوف، أُخذ عنوة من الغرفة بحجة العلاج، رغم توسلات رفاقه بعدم إخراجه، ليُعلن لاحقًا عن استشهاده.
ويصف الأسير المحرر تعامل السجّانين من الأقليات الدينية مثل الدروز بأنه أكثر قسوة من غيرهم، إذ حاولوا كما يقول، إثبات ولائهم للاحتلال عبر الإفراط في التعذيب، اليهودي إذا بيعذب 100%، هُم بيعذبوا 200%، بدهم يثبتوا إنهم أخلص لإسرائيل”.
لم يكن التعذيب الجسدي وحده سلاح الاحتلال، بل الإهمال الطبي المتعمد أيضًا، تفشّى مرض الجرب في الزنازين بسبب منع الاستحمام وغسل الملابس، ومع ذلك، لم تُقدَّم أي رعاية حتى انتقلت العدوى إلى السجانين أنفسهم، فبدأ العلاج حينها فقط.
ويصف شماسنة تلك المرحلة قائلًا: “قعدنا شهور بلا مي سخنة، لما سمحوا بالحمام، كان لكل أسير أربع دقايق بس، أربع دقايق من لحظة دخولك لحد ما تخلص، يعني حتى تنشف حالك صعب”.
ويزيد: “أما الكهرباء، فكانت تُمنح ساعة واحدة في اليوم، فقط أثناء “العدد” المسائي، لغرضٍ لا يتعدى رؤية وجوه الأسرى والتأكد من وجودهم، بعدها، يعود الظلام لينزل كسقفٍ على العيون”.
يخرج محمد شماسنة اليوم حرًا، لكن صوته لا يشبه صوت من غادر سجنه، يحمل في نبراته تعبَ آلاف الأسرى الذين ما زالوا يقاسون العزلة والحرمان، يروي بصدقٍ أن الاحتلال لم يكتفِ بسلب الحرية، بل حاول مصادرة الإيمان ذاته، إذ مُنعت الصلاة جماعة، وصودرت المصاحف، وأُطفئت كل نافذة تفضي إلى السماء.
وفي نهاية شهادته، يقول شماسنة جملة تختصر المشهد كله: “كنا في سجون بلا شمس، بلا صلاة، بلا حياة”.
الشهداء الأسرى.. نزفٌ مستمر خلف الأسوار..
في واحدة من أكثر المراحل دموية في تاريخ الحركة الأسيرة، تتكشف ملامح الجريمة الصامتة داخل السجون الإسرائيلية. فقد بلغ عدد الشهداء الأسرى الذين جرى الإعلان عنهم منذ اندلاع الحرب على غزة 77 شهيدًا، ارتقوا تحت وطأة التعذيب والتجويع والإهمال الطبي المتعمّد.
لكن هذا الرقم لا يعكس سوى ما تمّ الكشف عن هويّاته، فيما يبقى العشرات من معتقلي غزة الذين استُشهدوا رهن الإخفاء القسري، في ظلّ صمتٍ رسمي وإحجامٍ متعمّد عن الكشف عن مصيرهم.
وتواصل سلطات الاحتلال احتجاز جثامين 85 أسيرًا ارتقوا داخل السجون، من بينهم 74 استُشهدوا منذ بدء الحرب الأخيرة، في مشهدٍ يعبّر عن تراكُمٍ ممنهجٍ لسياسة الانتقام والإذلال، لترتفع حصيلة شهداء الحركة الأسيرة منذ عام 1967 إلى 314 شهيدًا، وفق ما وثّقته المؤسسات الحقوقية الفلسطينية على مدار العقود الماضية.
معتقلو غزة.. عار المعسكرات الجديدة
تحوّلت شهادات معتقلي غزة إلى وثائقٍ دامغة على وحشيةٍ غير مسبوقة، إذ كشفت عن أنماط من التعذيب تفوق في قسوتها كل ما وثّقته المؤسسات الحقوقية في العقود الماضية.
بدأت رحلة القهر منذ لحظة الاعتقال، مرورًا بمراكز التحقيق، وصولًا إلى المعسكرات التي استحدثتها سلطات الاحتلال لتكون مسالخ بشرية. هناك، تكدّس المعتقلون في ظروفٍ بالغة السوء، يتعرضون فيها للضرب المبرّح، والتجويع، والإهمال الطبي المتعمّد، وصولًا إلى جرائم الاعتداء الجنسي والإعدام الميداني.
ومن بين أبرز هذه المواقع معسكر “سديه تيمان” الذي بات الاسم المرادف لأبشع جرائم التعذيب، وقسم “ركيفت” في سجن الرملة الواقع تحت الأرض، حيث تُمارس سياسات الإخفاء والقتل البطيء بعيدًا عن أعين القانون.
أما الغالبية العظمى من معتقلي غزة، فقد صنّفتهم سلطات الاحتلال كمقاتلين “غير شرعيين”، وهو الوصف الذي أتاح لها قانونيًا تبرير التعذيب، وتجاوز كل المعايير الإنسانية والدولية. وتشير المعطيات الحقوقية إلى أن نحو 46 شهيدًا من معتقلي غزة جرى توثيق استشهادهم حتى الآن، في حين يظل العشرات مجهولي المصير.







