لا زلت أأكد بأن النقد الأدبي يجب أن لا يقتصر على الأدباء المشهورين فحسب, بل يجب أن يتجه إلى تلك الأقلام الشابة التي تبحث لها عن موقف أو محط قدم في الساحة الأدبيّة, وهنا يأتي دور الناقد الأدبي العضوي في تسليط الضوء على مثل هؤلاء, فهم في المحصلة سر استمراريّة الأدب ونسغ الحياة فيه. والشاعرة “سهام السعيد” هي من هؤلاء الأدباء الشباب الذين يبحثون عن بقعة ضوء لإبداعاتهم.
الشاعرة “سهام” التي تشبعت بحس وطني عال, وعشق لوطنها, تجذر في أعماق قلبها ونسيج عواطفها, وراح يشكل حيزاً واسعاّ من وعيها وثقافتها, تعاتب وطنها سوريا الذي كانت تجد فيه قبل الأزمة المأساة التي حلت به في العقدين الآخرين الأمن والاستقرار ودفء الروح وآمل المستقبل… قائلة له بعد أن حل به الدمار وعمّ الفساد وانتشر الفقر والجوع والتشرد والهجرة:
لا… أنت لم تعد وطني الذي ترعرعت فيه ووجدت ذاتي وانتمائي وأمني واستقراري, لأنك لم تستطع الحفاظ على عهدك بأن تكون وطن الأمن والأمان, والاستقرار ولم تعد تستطيع أن تأمن لنا لقمة العيش, وبالتالي أنت لم تعد قدري الذي عليّ أن أنفذ طواعية ما تأمرني به.. لأنك تركت قلبي سائباَ يعصره ألم ما حل به, ولم تعد قادراً أن تسيجه بأسوار الحب والدفء والحنان.
لا.. أنت لست وطناً
لأنك
لم تحسن العزف
على أوتاري
لأنك لست قدراً
تلزمني به أقداري…
لست وطناّ لأنك
لم تقيّد نبض قلبي
بالأسوار.
نعم أنت اليوم وطن الخراب والدمار والفساد. أما وطني الذي عرفته وترعرعت فيه, فهو شلال من العشق يرفض علي بالضرورة أن أحبه وأضحي من أجله, ها أنت اليوم تبكيني, وتمزق كل أحلامي وآمالي.. ومع كل ذلك لا أستطيع التخلي عنك رغم كل ما حل بي من محن.. تعال وكن كطائر الفينيق… وعلمني من جديد كيف أعشق أرضك, وكيف أقاوم بالبارود والنار من نالوا من هيبتك وكرامتك, علمني كيف أكون جنديّاً ثائرا يجيد الدفاع عنك وعني معاً. تقول:
أنا وطني شلال عشق
يُلزمني الحب بالإجبار
أنا وطني أبكاني عليه
ومزق خيمة أمطاري
علمني كيف أعشق أرضه
دربني كيف أسحق من وقف ضده
بالبارود وبالنار…
جبار وطني جندني
وزرعني في صف
الثوار…
نعم ..علمني يا وطني كيف أحب, وكيف أغار عليك من طعنات الغدر وأواجه كل أساطيل قوى الشر التي راحت تحاصرك في البر والبحر. تخاطبه:
أنا وطني
علمني كيف أحب
وكيف أغار عليه
من طعنات الغدار…
أسطولاً أصبح يأسرني
يملك شطي وبحاري.
البنية الجماليّة والفنيّة في القصيدة:
الصورة في القصيدة:
يعود الاهتمام بالصورة بوصفها أداة الشاعر التي تحكم شخصيته الفنيّة في أداء التعبير من جهة، ومن جهة أخرى تعد مقياساً فنيّاً وشخصيّاً للمبدع الذي أنتجها. فهي المادة التي تتركب من اللغة بدلالاتها اللغويّة والموسيقيّة والتخيليّة, التي تجمع بين عناصر التشبيه و الاستعارة والكناية والتمثيل و حسن التعليل.
لقد شكلت الصورة عنصرًا بارزًا ومهمًّا في هذا النص الشعري, إذ لجأت الأديبة “سهام سعيد” إلى تغليف أفكار النص وتثبيتها في نفس وذهنية القارئ بالصور إلى جانب ارتباط اللفظ المعنى، وهذا ما أيقظ العواطف, في لغتها التصويريّة. لقد كانت الشاعرة أكثر قدرة على التعبير في بوحها من التقرير. وبالتالي كلما كان الأدب تعبيريًّا كانت الصور هي التي تتشكل في ذهن القارئ. أما حين يكون الأدب تقريريًّا فإن الأفكار تطغى على الصور.
لقد جاءت الصورة عندها جزئيّة ومباشرة ومشبعة بمفردات البلاغة من تشبيه واستعارة وكناية ومجاز: (لم تحسن العزف على أوتاري), (لم تقيّد نبض قلبي بالأسوار. ), (أنا وطني شلال عشق ), (ومزق خيمة امطاري ).
ولكون الشاعرة استطاعت أن تجعل من تراسل صورها حكاية أو اقصوصة عتاب ورغبة في النهوض والتحدي, فقد أَلَفَتْ هذه الصور الجزئيّة مع بعضها نسيجاً حيّاً من الدلالات المتكاملة والمترابطة ليس مع بعضها فحسب, بل ومع مكونات وخلجات الشاعرة النفسيّة والفكريّة أيضاً لتصبح في الغالب صوراً جديدةً من نسج جديد، يتراءى فيها عالم الشاعرة الداخلي وارتباطه بعالمها الخارجي, الذي تدفقت عواطفها وأحاسيسها نحوه دون حساب من أجل الارتقاء به وتجاوز محنته.
هذا وقد تماها الخيال في قصيدة الشاعرة بالصورة والمجاز. فالخيال المعتمد على أساليب البيان من استعارة ومجاز وتشبيه, يفسِّر مدى ارتباط هذا الخيال بعواطف المتلقي والتأثير فيها من جهة, وبأسباب تجلي هذا الجمال وقدرته على إبراز المعاني في القصيدة وتوضيحها من جهة ثانية.. وبالتالي مدى قرب هذا الجمال ذاته وسرعة إدراكه من قبل المتلقي من جهة ثالثة.
النغم والايقاع في القصيدة:
لقد تمرد الشاعر المعاصر وخاصة شاعر قصيدة (النثر) على الوزن والقافية, ولجأ إلى التنويع في الصوت والنغم، وأصبح الاهتمام بالإيقاع الداخلي يزداد, لكونه أشمل من الوزن والقافيّة ويتعدى في الدلالة. وقد تطور الإيقاع فانتقل من نظام الصوت المتشابه، ومن نظام الوزن الصارم في الشعر إلى إيقاع جديد متحرر متسامح مع نفسه, ومن ثمة صار الصوت يؤدي دوراً بالغ الأهميّة في التأثير على المتلقي بما يحمل من خصوصيات في التنغيم والنبر والجهر والهمس عند الالقاء من جهة, ثم اعتماد الشاعر الحديث على الصورة بوصفها مطلباً يُفضي إلى موسيقى جديدة تُنغمها مشاعره وانفعالاته المرتبطة بالموقف من جهة ثانيّة, وهذا ما أعطى قيمة أكبر للإيقاع النفسي, وللنسق الكلامي, لا لصورة الوزن العروضي للبيت الشعري.
إن كل هذه المعطيات التي تمثله قصيدة النثر الحديثة نجدها في قصيدة ” غربة الأوطان” للشاعرة “سهام السعيد. لقد استطاعت عبر كل الصور الحسيّة والتخيليّة التي وظفتها في النص الشعري, أن تمنح المتلقي من خلال ترابطها, وعمق دلالاتها وسهولة لغتها, وترابط الدال والمدلول فيها أن يحقق رتماً موسيقياً داخلياً لنصها كاد أن يعوض ما فقده النص من وزن وقافية. تقول الشاعرة: (أنا وطني شلال عشق .. يُلزمني الحب بالإجبار…أنا وطني أبكاني عليه ومزق خيمة امطاري.. علمني كيف أعشق أرضه…دربني كيف أسحق ضده بالبارود وبالنار…). فبهذه الانسيابيّة في تلاحق الصور بكل جماليتها ومصداقيتها, يشعر المتلقي بشفافيّة الرتم الموسيقي في هذه الصور وما تحمله من مواقف تهز وتحرك خوالج الروح والجسد معا. لقد استطاعت الشاعرة عبر كل الصور الحسيّة والتخيليّة وقافية (السجع) التي وظفتها في النص الشعري, أن تمنح المتلقي من خلال ترابطها, وعمق دلالاتها وجماليّة لغتها, وترابط الدال والمدلول فيها, أن تحقق رتماً موسيقياً داخلياً لنصها كاد أن يعوض ما فقده النص من وزن, أو موسيقى خارجيّة.
العاطفة في القصيدة:
العاطفة هي الانفعال النفسي المصاحب للنص، وفي القصيدة نلمس بشكل واضح الانفعال الهادئً الايجابي المشبع بالإنسانيّة والأمل. كما نلمس في القصيدة جانباً واضحا يحمل هماً وطنيّاً وإنسانيّاً عاماً.. أما دوافع عاطفة الشاعرة فهي ضياع وطنها في حرب أهليّة طاحنة لم يسلم منها لا الحجر ولا البشر, والأهم انهيار قسم كبير من القيم الإنسانيّة العميقة والثابتة فيه، نعم هي عاطفة جياشة، تحمل هماً فرديّا في مضمونها إلا أنه هم إنساني عام في دلالاته.
لغة القصيدة:
لقد توشحت لغة القصيدة بالسماحة والسهولة والترابط والسبك والعذوبة والنعومة والرقة والشفافيّة. والأهم أنها كانت لفةً فصيحةً بسيطةً في الظاهر, وهذا ما يجعل المتلقي يشعر بأنها لغته هو التي يعبر فيها عن آماله وطموحاته ومعاناته, بيد أنها ليست لغة تقريريّة. إن حسن اللفظ في القصيدة حقق إلى جانب كل سماتها التي أشرنا إليها, رنتها الموسيقية اللذيذة في الأذن أيضاً, فكانت اللفظة الواحدة منسجمة مع بقية أجزاء الكلام, وهنا يكمن سر غرابة السبك وبراعة الصياغة وفن التعبير.
كاتب وباحث وناقد أدبي من سوريا
d.owaid333d@gmail.com
(غربة الأوطان). الشاعرة سهام السعيد.
لا.. أنت لست وطناً
لأنك
لم تحسن العزف
على أوتاري
لأنك لست قدراً
تلزمني به أقداري…
لست وطناّ لأنك
لم تقيّد نبض قلبي
بالأسوار.
أنا وطني شلال عشق
يُلزمني الحب بالإجبار
أنا وطني أبكاني عليه
ومزق خيمة أمطاري
علمني كيف أعشق أرضه
دربني كيف أسحق من وقف ضده
بالبارود وبالنار…
جبار وطني جندني
وزرعني في صف
الثوار…
أنا وطني
علمني كيف أحب
وكيف أغار عليه
من طعنات الغدار…
أسطولاً أصبح يأسرني
يملك شطي وبحاري.






