التحليل النفسي للنص الأدبي: بين وعي الكتابة ولاوعي النص:

بقلم: عماد خالد رحمة – برلين

لم يعد الأدب، في عمقه الإنساني، مجرّد ممارسة لغوية أو تجلٍّ جمالي، بل صار مرآةً للذات في أكثر حالاتها تعقيدًا وغموضًا. فالكتابة ليست فعلَ وعيٍ خالص، بل هي أيضًا انبثاقٌ لما يتوارى في عتمة النفس من رغباتٍ وأحلامٍ ومكبوتاتٍ تتخذ من اللغة مسرحًا لتجلّيها. ومن هنا جاء التحليل النفسي للأدب ليكشف عن الوجه الباطني للنص، وليحوّل القراءة من مجرّد تأمل في البنية الظاهرة إلى تنقيبٍ في عمق اللاوعي الذي يُنتج المعنى ويعيد تشكيله.
لقد غيّر سيغموند فرويد ومن بعده جاك لاكان وجان بيلمان نويل مفهوم الكتابة والقراءة معًا، حين ربطوا بين اللغة والرغبة، وبين الحلم والنص، وبين الوعي واللاوعي. فالنص الأدبي عندهم ليس كيانًا جامدًا، بل كائنٌ نفسيٌّ نابضٌ يحملُ بصمات الصدمة والرغبة والحنين، كما يحمل في طيّاته آثارَ المكبوت الفردي والجمعي.

في هذا الإطار، يتقدّم التحليل النفسي للنص الأدبي بوصفه مقاربةً تكشف ما لا تقوله اللغة صراحة، وما يُفلت من وعي الكاتب، ليظهر في صورٍ واستعاراتٍ وانزياحاتٍ لغوية تبوح بما سكت عنه العقل. إنّه بحثٌ في عمق الإنسان من خلال النص، واستعادةٌ لما أهملته المناهج الشكلية في تحليلها البارد للكتابة.

ولعلّ أهمية هذا الاتجاه تكمن في أنه يردّ الاعتبار للإنسان داخل النص، لا بوصفه كاتبًا فحسب، بل بوصفه ذاتًا مجروحة تبحث عن خلاصها في الكتابة، وعن توازنها في اللغة. ومن هنا، يغدو النقد النفسي جسرًا بين الأدب والتحليل النفسي، وبين علم النفس وفلسفة اللغة، محاولًا أن يفهم كيف يتكلّم اللاوعي بلسان الشعر والرواية، وكيف تتحوّل الكتابة ذاتها إلى شكلٍ من أشكال العلاج الوجودي.
لقد مثّل النقد النفسي منذ نشأته على يد سيغموند فرويد ثورةً في الوعي الأدبي، إذ لم يعد النص مجرّد بناء لغوي أو جمالي يُقاس بمعايير البلاغة والبيان، بل صار كيانًا حيًّا ينبضُ بالرموز، ويُخفي تحت سطحه حركةَ اللاوعي، حيث تتشكل الرغبات، والمكبوتات، والكوابح، والهواجس الجمعية والفردية معًا.
ومن ثمّ، انتقل النقد من تحليل البنية الظاهرة للنص إلى تفكيك اللاوعي المنتج له؛ من الجملة إلى الحلم، ومن الإيحاء إلى البنية العميقة التي تسكن اللغة وتتحرك في ظلالها.
في هذا الأفق، برزت أسماء كبرى أعادت صياغة العلاقة بين النفس واللغة والخيال، مثل لوران آصون، بيير بيار، جان بيلمان نويل، أندري غرين، برنار بانكو، بول لوران، وفيليب ويلمارت، كما كان للناقد الفلسطيني يوسف سامي اليوسف إسهام بارز في تأصيل هذا المنحى عربيًّا.
انشغل هؤلاء في استكشاف ما سُمّي بـ اللاوعي النصّي، أي ذلك المستوى الخفي الذي يحرك النص من الداخل، فيجعل الكاتب يقول ما لا يريد قوله، ويصمت عمّا يختبئ في عتمة المعنى.
لم يعد التحليل النفسي إذن قراءةً في شخصية الكاتب فحسب، بل صار قراءةً في النص نفسه بوصفه كيانًا نفسيًا مستقلاً له ذاكرته الرمزية وتاريخه المكبوت. ومن هنا، ارتبط النقد النفسي بالتحليل البنيوي واللساني، محاولًا استجلاء أنساق المعنى التي تجعل اللغة مسرحًا للرغبة وميدانًا لصراع الرموز والغرائز.
لقد أعاد جاك لاكان إحياء فرويد حين قرأه في ضوء اللسانيات البنيوية عند دي سوسير، فربط بين اللغة والرغبة، وجعل اللاوعي “مبنيًّا كاللغة”. فاللاوعي عنده ليس إلا بنية لغوية تتحرك وفق آليات التشبيه والاستعارة والكناية والإزاحة — وهي ذاتها الأدوات التي يقوم عليها الشعر. وهكذا صار التحليل النفسي منهجًا تأويليًا لغويًا يبحث لا عما يقوله النص، بل عمّا يقوله النص دون أن يدري.
وقد جسّر يوسف سامي اليوسف هذا الفكر في النقد العربي، عبر قراءاته العميقة لرواية موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح، والثابت والمتحوّل لأدونيس، وحتى المعلقات السبع. ففي هذه القراءات كشف عن حضور اللاوعي الجمعي العربي في النصوص، وعن الطريقة التي يعاد بها إنتاج الصدمة والمنفى والاغتراب عبر الخيال الأدبي.
لقد رأى اليوسف أن النص العربي المعاصر يمثل نوعًا من الهجرة النفسية، وأن الكتابة ذاتها مقام من مقامات التهجير الداخلي.
ومن هنا يُطرح السؤال الجوهري:
من سيكتب عن أدب الهجرة والتهجير النفسي للأدباء المعاصرين؟
فالهجرة اليوم ليست جغرافية فقط، بل هي تهجير من الذات إلى النص، ومن الذاكرة إلى اللغة، ومن الوطن إلى المنفى الداخلي. صارت الكتابة عند كثير من الأدباء آلية علاجية تحليلية، أو كما وصفها فيليب ويلمارت: “تحليل الذات عبر الخيال”.
ومع ذلك، ما زال النقد العربي مترددًا في اقتحام هذا الحقل، يتوجس بين من يراه انغماسًا في الذات، ومن يخشى أن يُختزل الأدب في وثيقة نفسية.
وقد كانت ثمانينات القرن العشرين العصر الذهبي للنقد النفسي العربي، بفضل مساهمات اليوسف ومجلة المعرفة السورية، ثم خفت الوهج لاحقًا رغم صدور أعمال رائدة مثل:
الكتابة والتحول.
١_ الرواية والتحليل النصي: قراءات من منظور التحليل النفسي (حسن المودن)

٢_ التحليل النفسي والأدب (جان بيلمان نويل)

٣_ الرواية البوليسية والتحليل النفسي (بيير بيار).
إنّ النقد النفسي الجديد ليس بحثًا في النوايا، بل في بنية الرغبة داخل النص؛ فكل عمل أدبي يحمل داخله أثر المكبوت، لكنه يظهر في هيئة رموز واستعارات وإزاحات لغوية. وبقدر ما يقترب الناقد من قراءة هذه العلامات، يقترب من المنطقة المظلمة للنص، حيث يتحدث اللاوعي بلسان الأدب.
إن التفكير في اللاوعي النصي اليوم هو إعادة نظر في مفهوم الكتابة بوصفها علاجًا للغربة الوجودية. فكل كتابة هي عبور من الألم إلى اللغة، وكل نص محاولة لتسكين التمزق بين الذات والعالم.
ومن ثم، فإن أدب المهجر والتهجير النفسي لا يمكن قراءته إلا بعين التحليل النفسي، لأنه يجسّد الحنين والصراع والهشاشة في بنيته الجمالية قبل أن يجسدها في موضوعه.
_ خاتمة:
التحليل النفسي للنص الأدبي هو عودة إلى الإنسان من خلال اللغة، ومحاولة لفهم كيف يتحول الجرح إلى استعارة، والمنفى إلى جملة، والصدمة إلى نصّ. إنّه لا يعيدنا إلى فرويد فحسب، بل إلى جوهر الكتابة كفعل مقاومةٍ للانشطار الداخلي، وكبحثٍ دائم عن التوازن بين وعي الكتابة ولاوعي النص.
ومن هنا، فإن استعادة هذا المنهج ليست ترفًا نقديًا، بل ضرورة ثقافية، لفهم الكتابة العربية الحديثة في عمقها النفسي والرمزي والوجودي.