واحدٌ وعشرون عامًا مرّت على رحيل الرجل الذي لم يكن مجرد قائد، بل كان تجسيدًا حيًّا لفلسطين وهي تنهض من رماد النكبة لتستعيد ملامحها في الوعي والذاكرة والواقع.
في مثل هذه الأيام من تشرين الثاني، غاب جسد ياسر عرفات (أبو عمار)، لكن صوته ظل يدوّي في المقاطعة، في خيم اللجوء، في الأزقة والمخيمات، وفي كل وجدانٍ فلسطينيٍ يعرف أن الطريق إلى الحرية تُعبد بالتضحيات لا بالكلمات.
عرفات لم يكن زعيمًا عادياً، بل كان ظاهرةً صنعت التاريخ الفلسطيني الحديث.
فمن تحت خيمة اللاجئين خرج يحمل حقيبة صغيرة وعلماً أكبر من جغرافيا المنفى.
ومع رفاقه في حركة فتح، أعاد للشعب الفلسطيني عنوانه السياسي بعدما أراد له العالم أن يكون “قضية إنسانية” لا “قضية وطنية”.
حوّل عرفات المخيم إلى معسكر، واللاجئ إلى مقاتل، والحنين إلى البندقية الأولى التي أعلنت أن “الثورة قرار فلسطيني مستقل”.
كان يؤمن أن الثورة ليست نهاية الطريق، بل وسيلة للوصول إلى الدولة، ولذلك حمل غصن الزيتون والبندقية في يدٍ واحدة أمام العالم، قائلاً عبارته الخالدة:
“لا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي.”
كان يدرك أن الفلسطيني لا يستطيع أن يعيش بلا كرامة، وأن الكرامة لا تُستعاد إلا حين يمتلك الشعب زمام أمره وسلاحه وقراره.
وحين أراد العالم أن يصنع “سلاماً بلا عدالة”، قال بصلابة:
“يريدونني أن أوقّع على وثيقة استسلام، وأنا لم أُخلق للاستسلام.”
ياسر عرفات هو ذاكرة المخيم ووجدان الثورة، هو الرجل الذي جمع بين بساطة الفلاح الفلسطيني ودهاء القائد التاريخي.
هو الذي خاطب المقاتلين في أصعب اللحظات قائلاً:
“يا أبناء فتح، إذا سقطت الراية، احملوها من بعدي، ولا تسمحوا أن تُنكّس.”
واليوم، بعد واحدٍ وعشرين عامًا على رحيله، لا تزال فلسطين تبحث عنه في العيون، في الشعارات، في الميادين.
فقد رحل الجسد، لكن المدرسة التي أسسها — مدرسة القرار الوطني المستقل، مدرسة المقاومة والإيمان بعدالة القضية — لا تزال تنبض في كل مناضلٍ يرفض الذل، وفي كل جيلٍ يصر على أن “الثورة مستمرة حتى النصر”.
لقد كان أبو عمار عنوانًا لعصرٍ من الأصالة والصلابة، رجلًا جمع بين دموع الأمهات وابتسامة الفدائيين، بين الكوفية والسلاح، بين الحلم والواقع.
وبموته، لم تفقد فلسطين قائداً فحسب، بل فقدت جزءاً من روحها.
ومع ذلك، فإن إرثه باقٍ، لأن الأوطان لا تموت حين يرحل الرجال، بل حين تُنسى الرسالة.
ورسالة عرفات كانت — وما زالت — واضحة:
“إني رأيتُ فيكم النصر قادماً، ولو طال الطريق.”
رحم الله القائد الشهيد ياسر عرفات، رمز الثورة الفلسطينية وضميرها الحي، الذي أعاد لشعبه هويته، وللقضية صوتها، وللعالم صورة الفلسطيني الذي يقاتل من أجل الحرية والكرامة، لا من أجل البقاء فقط.







