أكاديمية وباحثة
(في الذكرى الحادية والعشرين لاستشهاده)
عندما هممتُ بكتابة هذا المقال، ارتجفت أناملي قبل أن تلامس الورق، كأن الحروف تهيّبت الاسم الذي يُكتب، وكأن اللغة نفسها تراجعت خطوة إجلالًا لياسر عرفات، ذاك الذي لا تُحيط به الكلمات مهما اتّسعت، ولا تفيه الحروف حقّه مهما سمت.
في كل زاوية من فلسطين، من شاطئها حتى جبالها، من زيتونها الواقف في العاصفة إلى حجارتها التي تحفظ الذاكرة، يظل اسم ياسر عرفات متوهجاً كنجمةٍ لا تنطفئ، تضيء سماء الوطن كلما اشتدّ الظلام. هو ليس اسماً عابراً في سجل التاريخ، بل حكاية وطنٍ تتنفس من بين حروفه، وصوتٌ ما زال يهمس في أذن الأرض: لا تسقطي، فثمة حلم ما زال قائماً
عرفات لم يكن قائداً وحسب، بل كان وجداناً جمع الفلسطينيين تحت رايةٍ واحدةٍ من الإيمان والعناد الجميل. رجلٌ أدرك أن الثورة ليست بندقيةً فقط، بل قلبٌ مؤمن بعدالة القضية، ويدٌ تمتد بالسلام دون أن تُسقط البندقية.
في ملامحه كانت فلسطين تمشي على الأرض، وفي صوته كانت الأرض تنطق بالكرامة، وفي عينيه كان القدس تسكن في صمتٍ مهيبٍ كصلاةٍ لا تنتهي.
في الذكرى الحادية والعشرين لاستشهاده، نستعيده لا بوصفه ماضٍ انتهى، بل حضورا دائما في الوجدان، و نستحضر صمته الذي صار كلاماً، وصموده الذي صار مدرسةً للأجيال.
الشهيد الذي صاغ هوية الحلم
لم يكن ياسر عرفات قائداً عادياً ، بل أسطورة ولدت من رحم الخطر وصنعت ذاتها من لهيب الثورة. كان قلباً نابضاً بالأمة، يحملها في صدره كما يحمل المجاهد بندقيته وإيمانه. منذ أن أشعل شرارة الثورة الفلسطينية في عام 1965، وهو يزرع الحلم في العراء، يمضي على دربٍ يعرف أن نهايته إمّا حرية أو خلود.
واجه العواصف، وتحدّى الانكسارات، ووقف شامخاً أمام الانشقاقات والمؤامرات، مؤمناً أن الاختلاف لا يُطفئ الوطن بل يختبره. وفي لحظةٍ كان يمكن أن ينقسم فيها الصف، اختار الوحدة سلاحاً، والإصرار طريقاً، لأنّه أدرك أن فلسطين أكبر من الأنا، وأوسع من السياسة، وأقدس من الخلاف.
عرفات لم تُقَسْ قيمته بالمناصب ولا بالألقاب، بل بما زرعه في الوعي الجمعي من معنى الانتماء. كان يؤمن أن الوطن لا يُكتب على الخرائط فقط، بل يُنقش في القلوب، وأن الفلسطيني لا يعيش في وطنه فحسب، بل يحمل وطنه في روحه أينما سار. لقد كان حضوره يفرض معنى الوجود ذاته، كما تفرض الشمس النهار.
صار اسمه نشيدا تتوارثه الأجيال، وصورته رايةً ترفرف في ذاكرة المخيمات، وصوته وعدا لا ينطفئ. ومن حياته المتعبة ولِدت رسالةٌ خالدة:
” أن الحرية لا تموت، بل تورق من جديد في كل جيلٍ يحمل الفكرة، ويواصل الطريق.”
من الحصار إلى النور
لم تكن رحلة الرمز عرفات سهلة، فقد صمد في أصعب اللحظات، من حصار بيروت 1982 إلى معارك السياسة في كامب ديفيد 2000.
الحصار، القصف، التهميش، ومحاولات الاغتيال لم تثنه، بل حولها إلى قوة دافعة، أضاء بها طريق الأجيال القادمة. كان يعرف كيف يحوّل الألم إلى شعلة، واليأس إلى طاقة، والظلام إلى ضوءٍ يضيء دروب المقاومة.
كل خطوة على التراب الفلسطيني كانت رسالة أمل، وكل كلمة من صمته كانت إعلاناً أن الحرية ممكنة مهما اشتدت القيود. لقد زرع الورد في كل حفنة تراب، واقتلع الأشواك التي تعيق التقدم والسمو، ليظل الوطن حيّاً في قلوبنا.
حُوصِر في المكان، لكنّه لم يُحاصر في المعنى. وحين ضاقت به الجدران، اتسعت له القلوب، فصار رمزاً يسكن الذاكرة ويمتد في الوعي الجمعي، كأنّ روحه تتجوّل في الأزقة، بين الأطفال والحقول، بين المخيمات والقدس العتيقة.
هو الذي علّمنا أن الحصار لا يُطفئ الفكرة، وأنّ القائد الحقيقي يموت جسداً .. ليحيا وطناً.
أناقة الثورة وصدق الرسالة .. الأنيق ببساطة الوطن
كان ياسر عرفات أنيقا لا بالبزّة وحدها، بل بهيبة الفكرة التي ارتداها، وبساطة الحلم الذي حمله بين يديه.
تقدّم في الذاكرة كرمزٍ يمشي على الأرض، يجمع في ملامحه بين قسوة الجبال ودفء الزيتون، وبين نظرةٍ حازمةٍ تحمل وجع التاريخ وابتسامةٍ تُخفي اتساع الحلم.
كان بسيطا في حضوره، عميقا في صمته، وصاخباً في أثره؛ كأن حضوره نقطة ضوءٍ في ليلٍ طويلٍ من الحصار.
جمع في شخصه ما لا يجتمع: العنفوان والوداعة، الصلابة والمرونة، البندقية وغصن الزيتون.
بهذه المعادلة النادرة، أعاد تعريف القيادة بوصفها إنسانا قبل أن تكون سلطة، فكان القريب من الناس في خيمتهم، والبعيد ببصيرته إلى ما وراء الأفق.
عرفات لم يكن مجرد قائدٍ سياسي، بل ذاكرة تمشي على قدمين، وراية خفّاقة لا تُطوى في مهبّ الرياح.
بقي مجده بلا حدود، وصورته محفورة في الوجدان الجمعي، كوشمٍ من نورٍ على جبين فلسطين، لا تمحوها العواصف ولا تغسلها السنين.
لقد حمل رسالته للأجيال القادمة كما يحمل الشهيد وصيّته في القلب، ليبقى صوته هادئًا وحازمًا في آن:
“لا تنسوا القدس… فهناك تبدأ الحكاية، وهناك تنتهي البوصلة.”
وهكذا، ظلّ ياسر عرفات ليس مجرد رجلٍ من زمنٍ مضى، بل زمناً قائماً في كل رجلٍ وامرأةٍ من هذا الشعب الذي لا يموت
الوصية الأخيرة.. لا تنقسموا على الوطن
لم يمت أبو عمّار الإنسان، بل تحوّل إلى أسطورة تكتب التاريخ والكرامة. صوته ظل ضميراً جماعياً يذكّرنا بأن الوحدة وحدها هي الخلاص، وأن الانقسام خيانة لدم الشهداء. هذه الرسالة هي دعوة لكل الفصائل الفلسطينية، ولكل القلوب المخلصة، أن تعود إلى نهجه، إلى صدقه الأول، إلى النقاء الذي جعل من الرصاصة صلاة، ومن الزيتون معبراً إلى الفجر.
سلام لروحه التي ما زالت تحوم فوق العواصم، تذكّرنا أن الشهيد لا يموت، بل يسكن في كل ما هو جميل فينا، وأن الحرية ليست وعداً، بل فعل، وفلسطين آخر ما نهرب إليه وأول ما نعود منه.
ياسر عرفات ليس مجرد اسم يُذكر في الذكرى السنوية لاستشهاده، بل هو حضور دائم في الوجدان الفلسطيني، نوره يضيء طريق الأجيال، وصمته يُعلّمنا الصبر والثبات. هو من علمنا أن الوطن أكبر من كل ما يُمكن أن يعترض طريقه، وأن الحرية لا تُهدى، بل تُنتزع بصبر وعزم وإيمان.
في الذكرى الحادية والعشرين لاستشهاده، نستذكر الرجل الذي أصبح الوطن ذاته، ونعد بأن نحمل شعلة الحلم حتى يتحقق في كل فلسطين
سلامٌ عليك يا أبا عمّار،
يا من صرت الوطن ملامح وجهٍ، وصرت في الذاكرة نبضاً لا يغيب.
سلامٌ على الحلم الذي تركته أمانةً في صدورنا،
وسلامٌ على الخطى التي ما زالت تتّبع ظلك في دروب الحرية.







