في زمنٍ تتراجع فيه مكانة الكلمة أمام سطوة الصورة، يظلّ صوت الشاعر والمفكر حسين عبروس شاهدًا على أنّ الإبداع هو آخر ما يُنقذ الذاكرة من النسيان. من قاعة الدرس إلى فضاءات القصيدة، ومن تجربة التعليم إلى مغامرة أدب الطفل، يمضي عبروس في رحلةٍ طويلة تجمع بين الحكمة التربوية والحسّ الإنساني العميق. شاعرٌ يكتب ليضيء، لا ليُصفّق له الجمهور، ومربٍّ يرى في الطفل نصًّا مؤجلًا وفي القصيدة فعل مقاومة ضد العتمة. في هذا الحوار الخاص، يفتح الشاعر حسين عبروس قلبه لـ«الأيام نيوز» متحدثًا عن مسيرته بين القلم والطبشور، عن الشعر الجزائري بين الجيلين، عن أدب الطفل في زمن الإهمال، وعن مصير الكلمة في عصر الذكاء الإصطناعي. حوارٌ يلتقط نبض الإنسان في لغته، ويعيد للثقافة الجزائرية وهجها الإنساني الأصيل.
حوار.
1. بدايةً، كيف تلخّصون الرحلة من قسم التعليم إلى فضاء الإبداع؟ وهل كانت التجربة التربوية منبعًا لرؤيتكم الأدبية أم عبئًا على الكاتب في داخلكم؟
– الرّحلة من القسم إلى فضاء الإبداع لم تكن انتقالًا من مهنة إلى هواية، بل كانت عبورًا من التربية إلى التجربة، ومن تلقين الحرف إلى اكتشاف المعنى. التعليم بالنسبة لي لم يكن وظيفة، بل شكلًا من أشكال الإبداع اليومي، لأن الأستاذ الحقّ في كل مستويات التّعليم هو من يكتب في وعي الأجيال كما يكتب الشاعر في الذاكرة الجمعية
لقد تعلّمت من تجربتي التّربوية أنّ كل طفل هو نصٌّ محتمل، وأن داخل كل مربّي بذرة قصيدة تنتظر من يصغي إليها. في القسم، كنت أرى كيف تتفتح اللّغة في وجدان التلميذ،والطالب في الجامعة وكيف تتحوّل الكلمة إلى وعي وسلوك. تلك اللّحظات كانت بالنسبة لي مختبرًا للخيال الإنساني، ومنبعًا لتأملاتي حول الوجود والحرّية والكرامة ،وهي الثّيمات الكبرى التي سكنت شعري فيما بعد.
التّجربة التّربوية لم تكن عبئًا على الكاتب المبدع في داخلي، بل كانت رحمًا ولودًا له. علّمتني الإصغاء إلى التفاصيل الصغيرة، إلى نبض الحياة اليومية، إلى ما يسكن خلف الصمت. الأستاذ حين يعلّم بصدق يكتشف أنّ الطفل ليس متلقيًا، بل كائن يملك طاقة روحية مدهشة؛ ومن هنا ولدت لديّ الرغبة في أن أكتب للطفل، وأن أرى في الكتابة امتدادًا لفعل التعليم ولكن بأدوات الفن والجمال.
بكلمة واحدة: التعليم منحني “مفاتيح اللغة الإنسانية”، والإبداع جعلني أستخدمها في فتح الأبواب المغلقة في النفس البشرية. لقد كانا معًا جناحين لطائرٍ واحد اسمه الإنسان الباحث عن الضوء.
2. بصفتك شاعرا وأديبا، أين تضعون أنفسكم بين جيلَي الشّعر الجزائري القديم والمعاصر؟ وهل تشعرون أنّ القصيدة اليوم ما تزال قادرة على التأثير في وعي الناس؟
-أنا أنتمي إلى منطقة التّفاعل لا الانقسام بين الجيلين. أُدين بالانتماء إلى جيل رسّخ جذور القصيدة في تربة الوطن، جيلٍ كتب وهو يعيش الهمّ الجمعي للجزائر، وكنت في الوقت نفسه شاهدًا على تحولات اللغة الشعرية في زمن الانفتاح والوسائط الجديدة. لذلك، أرى نفسي في المنطقة الوسطى بين الجذوروالأفق: أستمد من التّراث حرارة المعنى، ومن الحداثة حرية الشكل.
القصيدة في رأيي لم تفقد قدرتها على التأثير، لكنها غيّرت أدواتها ومناخها. الناس لم يتوقفوا عن الحاجة إلى الشعر، بل تغيّر شكل الإصغاء إليه. فحين تضجّ الشاشات بالصور، تبقى القصيدة صوت الروح وسط الزّحام. تأثيرها اليوم لم يعد يُقاس بعدد القراء، بل بقدرتها على لمس القلب في زمنٍ يعاني من التبلّد.
– الشعر هو ضمير اللّغة، ومتى مات الشعر مات الضمير. ما تزال القصيدة قادرة على إيقاظ وعي الإنسان لأن جوهرها ليس في الإيقاع أو الوزن، بل في الصدق الداخلي وفي تلك الشرارة التي توقدها داخل القارئ حين تذكّره بأنه ليس رقمًا في آلة العالم، بل كائن قادر على الحلم والمقاومة.
3. ديوانكم “ألف نافذة وجدار” صدر في التسعينيات، وهي فترة عصيبة في تاريخ الجزائر. كيف انعكست تحولات تلك المرحلة على لغتكم الشعرية ورؤيتكم الجمالية؟
– التسعينيات في الجزائر كانت زمن الوجع الجمعي، زمنًا تتقاطع فيه اللّغة مع الدم، والقصيدة مع الخوف، والحلم مع الفقدان. حين كتبت “ألف نافذة وجدار”، كنت أشعر أنّ الوطن كلّه يبحث عن نافذةٍ يتنفس منها، وأنّ الجدار لم يعد مجرد معمار مادي، بل رمزًا للحصار الوجودي والرّوحي الذي يعيشه الإنسان في العالم العربي.
في تلك المرحلة، تغيّرت لغتي الشّعرية جذريًا. كنت أكتب سابقًا بلغة مفتوحة على الأمل، فصارت لغتي مشفّرة بالرّمز، مضمّخة بالصبر، ومنكسرة بكرامةٍ صامتة. لم أكتب عن الدماء مباشرة، بل كتبت عن الإنسان الذي يحاول النجاة داخلها. كنت أبحث في كل قصيدة عن مساحة للنور في زمن يختنق بالظلمة.
أمّا من حيث الرّؤية الجمالية، فقد أصبحت القصيدة عندي وسيلة للصمود وللنجاة لا للبوح فقط. لم تعد الزّخرفة اللّغوية تعنيني، بل أصبح الهمّ هو كيف أجعل اللّغة تشهد، كيف أحمّل الكلمة ما لا تطيقه إلا الرّوح. تلك السنوات علمتني أن الشعر يمكن أن يكون مقاومة، وأن الكلمة قد تُنقذ ما لا تُنقذه البندقية.
“ألف نافذة” كانت إذن أفق الحرّية، و”الجدار” تاريخ الوجع، وبينهما كتبتُ الإنسان وهو يفتش عن معنى الحياة في العتمة، وفي مجموعاتي الشعرية الأخرى – النخلة أنت والطلع أنا- طرق على حدبد القلب- ما تأبّي من الطيف..تبدّت لي تجربة جديدة ،وتوضحت الرّؤية في النصوص التي نشرتها بعد ذلك والتي سترى النور قريبا في مجموعة جديدة”مازال في القلب فيض المحبة”.
4. الكتابة للطفل ليست سهلة، وأنتم من الأصوات المتميّزة في أدب الطفل الجزائري. ما الذي دفعكم إلى خوض هذا المجال؟ وما فلسفتكم في مخاطبة الطفل العربي؟
– الكتابة للطفل لم تكن قرارًا بقدر ما كانت نداءً داخليًا. لقد اكتشفت مبكرًا أن الطفل هو الكائن الأكثر صدقًا، والأكثر استعدادًا لتلقي الجمال إذا قُدِّم له في صورته النقيّة. دوافعي للكتابة في هذا المجال تنبع من إيماني بأنّ الأمم تُبنى بخيال أطفالها قبل مؤسساتها، وأنّ أدب الطفل ليس ترفًا تربويًا، بل هو استثمار في الوعي الإنساني
فلسفتي في الكتابة للطفل تقوم على أنّ الطفل لا يحتاج إلى تعليم مباشر بل إلى تجربة فنية تُثير فيه التساؤل لا الطاعة. أؤمن أن الطفل لا ينبغي أن يُخاطب بعقل مبسّط، بل بروح عالية ترى فيه إنسانًا كاملاً في طور النمو. لذلك، أكتب له من موقع الصديق لا من موقع المربي.
النص الموجّه للطفل يجب أن يجمع بين الدهشة والمعرفة، بين الحلم والرمز، بين الحكاية والرسالة. في أعمالي مثل “سلسلة روائع الإبداع” أو “سلسلة من تاريخنا” والسلسلة العلمية أو “ندى الطفولة”أو” أغنيات دافئة” الشعرية لقد تجاوزت أعمالي للطفل ثلاثين عملا في القصة والشعر من الأعمال الأخرى،و قد حاولت أن أقدّم للطفل العربي تجربة تُعلّمه أن يسأل لا أن يردّد، وأن يحبّ الحياة لا أن يخاف منها.
إنّ الطفل الذي يتذوق الأدب منذ الصغر، سيتذوق الحرية حين يكبر، لأن الأدب هو المدرسة الأولى للحسّ الإنساني الرفيع.
5. هل تعتقدون أن أدب الطفل في الجزائر يحظى بالاهتمام الكافي من المؤسسات الثقافية والإعلامية؟ وما هي التّحديات الكبرى التي تواجه كتّاب هذا المجال.
– مع الأسف، لا يزال أدب الطفل في الجزائر يعيش على هامش السياسات الثقافية، رغم وجود كتّاب مبدعين وتجارب رائدة تستحق الدّعم أمثال صديقنا الأستاذ رابح خدوسي وصديقنا الشاعرعمرعلواش،ولكن المشكلة ليست في ضعف الإنتاج، بل في غياب الرّؤية الوطنية الشّاملة التي تجعل من أدب الطفل جزءًا من مشروع حضاري متكامل.
-إنّ أبرز التّحديات التي تواجه كتّاب هذا المجال هي:
– قلة دور النشر المتخصصة في أدب الطفل، وضعف التوزيع، وغياب التسويق الجاد للكتاب الموجّه للصغار.
-انعدام النّقد التّربوي الأدبي الذي يقوّم الأعمال ويواكبها علميًا وجماليًا.
– هيمنة النّص المستورد من ثقافات أجنبية لا تعبّر عن الطفل الجزائري ولا عن وجدانه العربي والإفريقي.
– كثرة المتطفلين على أدب الطفل في الكتابة والدراسات،بحيث أفسدوا على المبدع الحقيقي مجال ثقافة الطفل في الجزائر وفي الوطن العربي.
– إنّ أدب الطفل يحتاج إلى دعم مؤائر وفي الوطسساتي حقيقي: مجلات متخصصة، مسابقات سنوية، ورش تكوين للكتّاب والرسّامين، ومناهج مدرسية تُدخل النص الأدبي الجميل في وعي
التلميذ. فمن دون ذلك، سيظل الكاتب للطفل يحفر بإبرة في صخر الإهمال. ومع ذلك، فإنّ جمال هذا التحدي هو أنه يُبقي الكاتب مخلصًا لرسالته الأولى: أن يكتب لأجل الغد لا لأجل الجوائز.
6. من خلال تجربتكم في الصحافة، كيف ترون العلاقة بين الإعلام والثقافة؟ وهل يساهم الإعلام الجزائري فعلاً في ترسيخ الذائقة الأدبية لدى الجمهور؟
– الإعلام والثقافة في الأصل وجهان لعملة الوعي، لكن في واقعنا العربي عمومًا، والجزائري خصوصًايعيشان غالبًا في منطقتين متباعدتين الإعلام يبحث عن الخبر والثقافة تبحث عن الأثر.
لقد عملت في الحقل الصحفي ورأيت كيف يمكن للإعلام أن يكون جسرًا مضيئًا حين يفتح مساحاته للإبداع، وكيف يمكن أن يتحوّل إلى ضجيج حين يركض وراء الإثارة الفارغة.
نحن بحاجة إلى إعلام ثقافي حقيقي، لا مجرد تغطية مناسبات. إعلام يواكب الحركة الإبداعية، يقدّم النصوص الجديدة، ويُعيد الثقة بين القارئ والمبدع. لا يمكن أن تبنى الذائقة الأدبية من دون وسائط ذكية تعرف كيف تُبسّط الثقافة دون أن تبتذلها.
الصحافة في رأيي ليست منبرًا للآراء فقط، بل مختبرًا للجمال أيضًا. والإعلامي الثقافي المثالي هو من يملك حسّ الشاعر ودقّة المؤرخ معًا. حين نصل إلى هذا الوعي، يمكن أن يصبح الإعلام رافدًا للأدب لا خصمًا له، وأن يتحوّل الجمهور إلى قارئٍ يعي ما يتلقّى لا مجرد مستهلكٍ للصور.
7. أنتم مؤسس لرابطة إبداع الثقافية الوطنية. إلى أي مدى استطاعت الرابطة أن تخلق جسراً بين المبدعين والمؤسسات الثقافية الرسمية؟
رابطة إبداعالثقافية. لم تُولد من فراغ، بل من حاجة جماعية إلى كيانٍ يلمّ شتات الطاقات الإبداعية خارج الاصطفافات السياسية والإيديولوجية. أردناها منذ البداية بيتًا مفتوحًا لكلّ من يكتب، ويرسم، ويحلم ببلدٍ تُصغي فيه المؤسسات إلى المبدع لا العكس.
لقد نجحت الرابطة، في حدود إمكانياتها، في خلق فضاءات تفاعلية حيّة بين الكتّاب الشباب والمبدعين المخضرمين، عبر ملتقيات وورشات فكرية وأدبية وفنية. كانت الفكرة الجوهرية هي أنّ الثقافة ليست امتيازًا نخبويًا بل حقٌّ مواطنيّ.
أمّا علاقتها بالمؤسسات الثقافية الرسمية فكانت علاقة شدّ وجذب؛ فنحن نحاول أن نؤسّس لجسرٍ حقيقي بين الطاقات الإبداعية والسّياسات الثقافية، لا جسرِ مصلحة بل جسرِ ثقة.
أستطيع القول إن الرابطة زرعت روح المبادرة الثقافية المستقلة، وأعادت تعريف العمل الثقافي بوصفه فعلًا جماعيًا نابعًا من الإيمان بأنّ الثقافة هي مقاومة يومية ضد النسيان.
8. ترجم بعض أعمالكم إلى الفرنسية والإنجليزية. كيف ترون حضور الأدب الجزائري في اللّغات الأخرى؟ وهل يرى حسين عبروس أنّ التّرجمة تُنقذ النص أم تُضعفه؟
– التّرجمة، في رأيي، ليست مجرد نقل لغوي، بل فعل ولادة ثانية للنّص إنّها تتيح للكاتب أن يرى نفسه في مرآة أخرى، وتمنح النّص حياةً جديدة في ثقافة مغايرة. حين تُرجمت بعض نصوصي إلى الفرنسية والإنجليزية، أدركت أنّ الكلمة الصادقة يمكن أن تعبر الحدود مهما
اختلفت اللّغات، لأن الوجدان الإنساني مشترك ،لكنني أؤمن أيضًا أن الترجمة يمكن أن تُضعف النص إذا لم تُنجز بوعيٍ جمالي وروحي. النص العربي، بخاصة الشعري، يحمل طاقة إيقاعية وثقافية قد لا تُستنسخ بسهولة. لذلك، أنا أرى أن المترجم شريك إبداعي، لا مجرد ناقل، وأن الترجمة الجيدة هي تأويل جديد للنص الأصلي.
أمّا الأدب الجزائري، فهو حاضرٌ في اللّغات الأخرى لكنّه في حاجة إلى مؤسسات ترجمة وطنية تعمل بشكل منهجي. إنّ أصواتًا جزائرية كثيرة جديرة بأن تُسمع في العالم: من الشعر الصوفي، إلى الرّواية الواقعية، إلى أدب الطفل في التّرجمة، إن أُتقنت، لا تضعف النّص بل تنقذه من عزلته الجغرافية وتمنحه بعدًا إنسانيًا كونيًا.
9. هل تعتبرون أنّ الجيل الأدبي الجديد في الجزائر يسير على خطى من سبقوه؟ أم أنّه يكتب خارج الهوية اللّغوية والثّقافية التي ميّزت الأدب الجزائري؟
– كل جيل أدبي يحمل قدرًا من الاستمرار وقدرًا من التمرّد، وهذه سنّة الحياة في الثقافة. الجيل الجديد في الجزائر يكتب بحرّية أكبر، وهذا في حد ذاته مكسب، لكنه في بعض الحالات يتمرّد دون بوصلة، فينقطع عن الجذور اللّغوية والروحية التي شكّلت هوية الأدب الجزائري منذ الأمير عبد القادر إلى مفدي زكرياء ومحمد ديب والطاهر وطار.
أنا لا أطلب من الجيل الجديد أن يُقلّد من سبقه، بل أن يقرأهم قراءة وعي لا قراءة تقليد. الهوية ليست قيدًا على الإبداع، بل هي ضوءٌ يرشدك في العتمة. من يكتب خارجها يكتب بلا ذاكرة، ومن يكتب داخلها فقط يخاطر بالجمود؛ التوازن هو أن نكتب من داخل الروح الجزائرية ونحن نطلّ على العالم.
جيل اليوم أمامه مسؤولية جسيمة: أن يجعل من الأدب الجزائري المعاصر مساحة حوار بين الأنا والآخر، بين المحلي والإنساني. ولعل ما يميّز بعض الأصوات الشابة أنها بدأت تفهم أن التجريب لا يعني القطيعة، بل يعني إعادة اكتشاف الذات في لغتها الأم.
10. في زمن الذكاء الاصطناعي والمنصات الرّقمية، هل ما زال الكاتب يمتلك سلطة التأثير؟ وكيف تتعاملون شخصيًا مع التحول الرقمي في النشر والتواصل؟
– لم تعد السّلطة اليوم سلطة القلم وحده، بل سلطة الفكرة المتوهجة وسط الضجيج الرقمي
. ومع ذلك، فإن الكاتب الحقيقي لا يفقد تأثيره، لأنه يملك ما لا تملكه الآلة: العاطفة، والضمير، والحدس الجمالي.
الذكاء الاصطناعي يمكن أن يُنتج نصًا متقنًا شكلاً،لكنه لا يستطيع أن يُنتج نبضًا إنسانيًا صادقًا.
أمّا بالنسبة لي، فأنا أتعامل مع الفضاء الرقمي كأفق جديد للتواصل لا كبديل عن الورق. المنصات الرقمية فتحت نوافذ للوصول إلى قرّاء لم يكونوا متاحين من قبل، لكنها تتطلب وعيًا
نقديًا كي لا تتحوّل إلى بحر من الغثاثة.أؤمن أنّ على الكاتب أن يواكب التحول التكنولوجي دون أن يفقد نبرته الإنسانية. فالأدب سيظلّ هو الكلمة التي تُكتَب من روحٍ بشرية إلى روحٍ بشرية، مهما تطوّرت الوسائط.
11. كيف ترون مستقبل الثقافة والأدب في الجزائر؟ وهل أنتم متفائلون بعودة القارئ العربي إلى الكتاب الورقي وسط هيمنة الصورة؟
– أنا بطبيعتي مؤمن بأن الثّقافة في الجزائر لا تموت بل تتجدّد، تمامًا كما تتجدّد الواحات بعد الجفاف. ثمة طاقات شبابية تكتب بجرأة فكرية وجمالية لافتة، وهناك حراك ثقافي متصاعد في الجامعات والجمعيات، رغم كل العراقيل المادية.
مستقبل الأدب الجزائري مرهون بقدرتنا على بناء جسور بين الأجيال، وعلى إعادة الاعتبار للقراءة في الفضاء العام.
أمّا الكتاب الورقي، فلن يختفي. ربما تقلص حضوره، لكنّه سيبقى المسكن الطبيعي للفكر التأملي. الصورة تغري، لكن الكلمة تُعمّق. ستبقى هناك فئة من القرّاء تبحث عن المعنى لا عن التمرير السريع، وعن النص الذي يُضيء لا الذي يُسلّي.
أنا متفائل، لأنّ في الجزائر -رغم كل شيء -شعلة الإبداع لا تنطفئ. هذا البلد، الذي كتب بالدم قصائد حريته، لا يمكن أن يعجز عن كتابة مستقبله بالحبر.
12. كلمة أخيرة من الشاعر حسين عبروس إلى الجيل الجديد من الكتّاب والشعراء. ما النصيحة التي تقدمونها لمن يريد أن يكتب لا ليشتهر، بل ليبقى؟
أقول لهم:
اكتبوا لأن الكتابة تُنقذكم من الصمت لا لأنها تضمن لكم التصفيق.
لا تبحثوا عن الشهرة، بل عن الحقيقة التي تسكن أعماقكم بأنّ أيّ تجربة إبداعية صادقة ستخلد مع الأيام.
اقرأوا كثيرًا، وتأملوا أكثر، واصغوا إلى أصوات الطبيعة كما تصغون إلى أصوات الكتب.
تذكّروا أن الكاتب الذي يريد أن يبقى هو من يكتب للإنسان،لا من أجل الخوارزمية ولا السوق.
– الكتابة فعل إيمان، والإبداع مقاومة ضد التكلّس والعبث حين تكتبون، لا تنسواأن كل حرف مسؤولية، وأن كل قصيدة قد تكون آخر ما ينجو منّا،لتكن كلماتكم جسرًا نحو النور، لا صدىً في الفراغ،فالشاعر الذي يكتب ليُحبّ، يخلّد؛ والذي يكتب ليُصفّق له، يذبل مع أول موسم.







