تشهد منطقة الشرق الأوسط وأفغانستان لحظة تحوّل جيوسياسي استثنائية، حيث تفرض ظاهرة الإرهاب العابر للحدود إعادة رسم الخريطة الأمنية الإقليمية.
فتنظيم داعش بعد تراجعه في العراق وسوريا عاد للظهور بشكل أكثر خطورة عبر فرعه الأكثر وحشية: داعش–خراسان، الذي امتدت عملياته من كابول إلى موسكو والمنطقة ، وصولًا إلى مخاوف أميركية وخليجية من تهديدات مستقبلية أوسع.
وفي هذا السياق، تظهر ظاهرة نادرة في العلاقات الدولية: أطراف متصارعة أيديولوجيًا وسياسيًا، لكنها مضطرة للتقاطع في نقطة واحدة، وهي مواجهة تنظيم لا يعترف بالحدود، ولا يميز بين عدو وصديق.
وعليه، فإن انخراط سوريا المحتمل في التحالف الدولي، وصراع طالبان مع داعش–خراسان، والميل البراغماتي لدى دوائر في واشنطن للتعامل مع كابول، والدور الخليجي المتنامي في هندسة الأمن الإقليمي، جميعها عناصر تشكل لوحة استراتيجية جديدة تستحق التحليل العميق.
١-سوريا وإعادة تعريف مسرح مكافحة الإرهاب
إن انخراط سوريا في أي إطار من أطر التعاون الدولي لمكافحة الإرهاب لن يقتصر على بُعد عسكري فحسب، بل سيشكّل تحولًا استراتيجيًا قادرًا على إعادة رسم موازين القوة في منطقة الشرق الأوسط. ففي السياق الدولي الراهن، تتجه المعايير العالمية نحو إعادة تعريف مفهوم «الإرهاب»، بحيث لا يظل محصورًا في تنظيم داعش بصورته التقليدية، بل قد يشمل أطرافًا أخرى وفقًا للحسابات الأميركية والغربية، وشركائها الخليجيين، خصوصًا في ظل الصراعات الإقليمية القائمة.
ومن شأن انخراط دمشق في هذا الإطار إعادة صياغة المشهد الإقليمي برمّته، خصوصًا في ظل التوترات المتشابكة بين الولايات المتحدة وإيران وتركيا ودول الخليج، وما يترتب على ذلك من إعادة تموضع سياسي وأمني في المنطقة.
٢-طالبان وداعش–خراسان: صراع وجودي يتجاوز حدود أفغانستان
خاضت حركة طالبان في الماضي حربًا شرسة ضد داعش–خراسان، ولا تزال اليوم تعتبره العدو اللدود والتهديد الأخطر على أمن أفغانستان والمنطقة كافة. وقد صعّدت طالبان مؤخرًا خطابها باتهام باكستان بإيواء عناصر من التنظيم أو توفير بيئة حاضنة له، وهو اتهام يستند إلى حقيقة تاريخية مهمة، إذ إن التكوين الأول لداعش–خراسان ضمّ مقاتلين كثر من باكستان، خصوصًا من قبيلة «أوركزي» على الخط الفاصل بين البلدين المعروف بـ «ديوريند لاين»، وهي مناطق عُرفت بتعدد الجماعات المسلحة وتداخل النفوذ العسكري والاستخباراتي منذ زمن طويل.
وفي مواجهة هذا التهديد، تجد طالبان نفسها أمام تنظيم يمتلك قدرة عالية على العمل الشبكي، ويُعدّ اليوم من أخطر الفروع الداعشية على مستوى العالم، ويشكل تهديدًا عالميًا.
٣-واشنطن وطالبان: براغماتية اضطرارية لرصد تهديد عالمي
رغم عدم اعتراف الولايات المتحدة بالحكومة الحالية في كابول، تُبدي دوائر في البيت الأبيض ميولًا براغماتية للتعاون مع كابول في ملف داعش–خراسان تحديدًا.
ويستند هذا التوجه إلى إدراك أميركي بأن التنظيم يشكل تهديدًا عالميًا يتجاوز قدرات دولة واحدة، وأن طالبان، رغم اختلافها الجذري مع واشنطن في كثير من القضايا، تمتلك قدرة ميدانية على كبح تمدده داخل أفغانستان.
وبذلك تتشكل معادلة جديدة: عدوّ مشترك يجمع بين أطراف لا يجمعها أي مشروع سياسي أو أيديولوجي، لكنها تتقاطع مصالحها في مواجهة تهديد عالمي، بما يستدعي انخراطًا عمليًا وتفاهمات يمكن أن تبعد الهواجس الأمنية وتنسق الجهود الجيوسياسية.
٤-دول الخليج: لاعب حاسم في هندسة الأمن الإقليمي
تلعب دول الخليج—وخاصة الثالوث الإماراتي والسعودي والقطري—دورًا مركزيًا في صياغة التحالفات ضد الإرهاب منذ تأسيس التحالف الدولي عام 2014. ومع صعود خطر داعش–خراسان، بدأت العواصم الخليجية في التعامل معه بوصفه تهديدًا يمتد إلى آسيا الوسطى وجنوب آسيا، وقد يخلق ارتدادات أمنية في الخليج ذاته.
وترى دول الخليج انخراط سوريا في مكافحة الإرهاب من زاويتين:
أ. إمكانية تحقيق استقرار إقليمي وكبح الفوضى الأمنية
ب. الخشية من أن يؤدي ذلك إلى تعزيز نفوذ إيران داخل النظام السوري
كما تتابع العواصم الخليجية بحذر معركة طالبان ضد داعش–خراسان، لكون نتائجها ستنعكس على أمن المنطقة، وطرق التجارة والطاقة، والممرات الحيوية، والمشاريع الاستثمارية.
٥-روسيا وإيران: صانعا القرار المزدوج في مواجهة العمق الآسيوي لداعش–خراسان
لا يكتمل أي تحليل لهندسة القوة الجديدة دون إدراج إيران وروسيا، لكونهما ليسا مجرد دولتين لهما نفوذ إقليمي، بل قد يكونان ضحيتين مباشرتين لضربات داعش–خراسان في طهران وموسكو. هذا الاستهداف المباشر يضعهما في تقاطع مصالح استراتيجي لمكافحة التنظيم، لكن بطرق مختلفة:
الموقف الإيراني: تنظر طهران إلى داعش–خراسان بوصفه تهديدًا مزدوجًا: داخليًا (كما حدث في كرمان) وحدوديًا يمس عمقها الاستراتيجي في آسيا الوسطى وأفغانستان، ما يدفعها إلى التعاون غير المعلن، أو التنسيق، مع طالبان لضمان أمن حدودها.
الموقف الروسي: بعد الهجوم على موسكو، أصبحت روسيا أكثر انخراطًا في ملف مكافحة هذا الفرع تحديدًا، خاصة وأن لديها مخاوف تاريخية وأمنية بشأن تمدد الإرهاب من أفغانستان إلى جمهوريات آسيا الوسطى، التي تعتبرها محيطًا حيويًا لها. كما أن دور البلدين حيوي في أي نقاش حول انخراط سوريا في تعاون دولي محتمل، إذ يمتلكان القدرة على تسهيل أو عرقلة مسار العودة
وختاما فان داعش–خراسان يمثل قنبلة موقوتة على خريطة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، تجبر الجميع خصومًا وشركاء على مواجهة حقيقة واحدة: لا أمن بدون تعاون، ولا استقرار بدون مواجهة الفوضى العابرة للحدود. إنه يفرض وبقوة إعادة هندسة التحالفات الإقليمية والدولية، ويجبر الأطراف على تجاوز خلافاتهم التقليدية، ليصبح الأمن الجماعي تجربة عملية لا مفر منها. وفي هذا السياق، يبرز داعش– وداعش خراسان ليس فقط كتهديد عسكري، بل كمحفز لإعادة التفكير الاستراتيجي في مفهوم الأمن والتعاون الدولي لمواجهة المخاطر العابرة للحدود.







