جيفري إبستين – من الجرائم الجنسية إلى شبكات النفوذ العالمية

السياسي – نشرت مجلة “ذا نيشين” تقريرًا أوضحت فيه أن جيفري إبستين لم يكن مجرد معتدٍ جنسي، بل شخصية ذات نفوذ واسع داخل شبكات القوة الدولية، حيث كان يلعب دورًا بالحروب والاضطرابات باعتبارها فرصًا للربح السياسي والمالي، فضلاً عن دوره كوسيط بين قادة دول.

وذكرت المجلة، في تقريرها أن جيفري إبستين كان ينظر إلى الحروب والفوضى بوصفها فرصًا للربح، وقد تابع عن قرب النزاعات الخارجية بحثًا عن مكاسب تجارية. وفي رسالة بتاريخ 21 شباط/ فبراير 2014 إلى إيهود باراك، رئيس الوزراء الإسرائيلي وشريكه لاحقًا في شركة الأمن السيبراني كارباين، كتب إبستين معلقًا على اشتعال الأوضاع في أوكرانيا وسوريا والصومال وليبيا: “أليس هذا مثاليًا بالنسبة لك؟”. فردّ باراك محذرًا من المبالغة: “أنت محق، لكن تحويل ذلك إلى تدفق مالي ليس سهلًا”.

وأشارت المجلة إلى أن هذه الرسائل سلّطت الضوء على أحد الجوانب المخفية في فضيحة إبستين. فاسمه ارتبط بالاعتداءات الجنسية، لكنه ارتبط أيضًا بالنزعة العسكرية العالمية والنظم السلطوية. إذ لم يتاجر فقط بأجساد الأطفال الذين أساء إليهم، بل أيضًا بشبكات العلاقات الاجتماعية التي تجمع النخب، مدركًا أن “يأس من هم في السلطة” يجعلهم متلهفين لشراء ما يعرضه: روابط مع شخصيات نافذة وأنظمة أمنية لقمع المعارضة.

وأفادت المجلة أن الفضيحة تجددت بعد نشر الديمقراطيزن في مجلس النواب كمية كبيرة من رسائل إبستين الإلكترونية مع شخصيات معروفة. وتكشف هذه الرسائل عن ضرر سياسي كبير للرئيس دونالد ترامب، إذ تعزز الأدلة على صلته الوثيقة بإبستين لسنوات، ومعرفته باعتداءاته، واحتمال تورطه في بعضها. ويستحق ترامب ما قد يلحق به من أذى في سمعته أو مساءلة قانونية نتيجة علاقاته بإبستين، لكن جوهر القضية يتجاوز شخصًا واحدًا أو حزبًا بعينه، ليكشف عن فساد الطبقة الحاكمة بأكملها.

وتوثق رسائل إبستين علاقاته بشريحة واسعة من النخب الأمريكية والعالمية، متجاوزة الانقسامات الحزبية. فقد كان على علاقة وثيقة بوزير الخزانة الأسبق لاري سامرز (الذي تولى مناصب رفيعة في عهدي كلينتون وأوباما)، وكذلك بمستشار ترامب ستيف بانون والملياردير اليميني بيتر ثيل، وحتى نعوم تشومسكي وصفه بانبهار بأنه “صديق عزيز”.

وتتساءل المجلة كيف تمكن إبستين من الإفلات لعقود رغم أن جرائمه كانت شبه معلومة، مستشهدًا بصفقة 2008 المخففة التي نالها في قضايا الاعتداء على القاصرات. وكان قد قيل إن المدّعي السابق أليكس أكوستا أبلغ ستيف بانون سرًا بأن إبستين “مرتبط بالاستخبارات”، لكنه عاد في شهادته أمام الكونغرس مؤخرًا ليؤكد أنه لا يعرف ما إذا كان لإبستين أي صلة فعلية بالمجتمع الاستخباراتي.
لقد غذى الغموض المحيط بتصريحات أكوستا، إلى جانب الألغاز الكثيرة حول ثروة إبستين وصلاته الاجتماعية، التكهنات بأنه كان أداة بيد وكالة الاستخبارات المركزية أو الموساد.

وبحسب تقارير نشرها موقع “دروب سايت” ومجلة “ريزن”، تشير المعطيات إلى أن إبستين لم يكن عميلًا لـ”سي آي إيه” أو الموساد، ليس لعدم أهليته، بل لأن هذا الدور كان أقل من مكانته. فقد عمل كوسيط نفوذ وأوليغارشي أميركي مؤثر ساهم في تشكيل السياسات الغربية، ما وضعه في تماس مباشر مع أجهزة الاستخبارات والدبلوماسيين.

وأدى الغموض الذي أحاط بتقارير أكوستا، إلى جانب الألغاز العديدة التي تحيط بثروة إبستين وعلاقاته الاجتماعية، إلى تغذية التكهنات منذ فترة طويلة بأنه كان أحد عملاء وكالة الاستخبارات المركزية أو الموساد.

وكتب ماثيو بيتي في مجلة “ريزن” ذات التوجّه التحرري في آب/ أغسطس عن طبيعة روابط إبستين مع إيهود باراك، موثّقًا ما يلي:

بعد اعتقاله الأول بتهم جرائم جنسية، حاول إبستين دخول مجال جديد: “المراقبة الأمنية”. ففي عام 2015، شارك رئيسَ الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود باراك في الاستثمار في شركة ناشئة للتقنيات الأمنية تُدعى “ريبوورتي هوملاند سيكيوريتي”، والتي أصبحت لاحقًا “كارباين”. وتُظهر رسائل إلكترونية مسرّبة أن إبستين كان يستغل باراك للبحث عن فرص داخل قطاع المراقبة، وبناء شبكة علاقات مع شخصيات نافذة حول العالم، من بينها رجل الأعمال الأمريكي بيتر ثيل، والمدير السابق لوحدة الاستخبارات الإشارية الإسرائيلية، واثنان من المقرّبين من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

وبعد اعتقال إبستين الثاني في 2019، قطع إيهود باراك علاقته به، واصفًا إياه بـ”نسخة مروعة من الدكتور جيكل ومستر هايد”، لكنه أشار إلى ذكائه وشبكاته الاجتماعية الواسعة واهتماماته المتعددة.

واعتمد ماثيو بيتي على رسائل إلكترونية مخترقة من باراك على موقع دِستريبيوتِد دِنَيَلز أوف سِكريتس، واستُخدمت لاحقًا من قبل مرتضى حسين وريان غريم في “دروب سايت” لتفصيل علاقات إبستين مع باراك ونخبة السياسة الخارجية الأمريكية والإسرائيلية. وتكشف الرسائل عن جهود إبستين لفتح قناة خلفية بين إسرائيل وروسيا أثناء الحرب السورية، بما في ذلك ترتيب اجتماع بين باراك وبوتين لدعم تسوية تشمل إزالة بشار الأسد.

وأشارت المجلة إلى أن تقارير أخرى وثّقت دور إبستين في تعزيز العلاقات بين إسرائيل ومنغوليا وساحل العاج، من خلال تسهيل بيع تقنيات المراقبة الإسرائيلية. كما أفادت أن فريق “دروب سايت” كشف أن ضابط الاستخبارات الإسرائيلي الراحل يوني كورين، وهو من المقرّبين لباراك، كان ضيفًا متكررًا في مقر إبستين بمانهاتن.

وقالت المجلة إن صلات إبستين بالاستخبارات الأمريكية ما زالت غامضة، لكن من الصعب تصديق أن مواطنًا أمريكيًا يمكن أن ينخرط في عمل دبلوماسي رفيع المستوى كهذا (يتضمن التواصل مع قوى أجنبية) من دون علم ودعم ضمني من أجهزة الأمن القومي الأمريكية.

وأوضحت المجلة أن إبستين لم يكن مجرد تابع، بل لاعبًا مؤثرًا في السياسة الخارجية. واعتبره الباحث فان جاكسون في منصته آن-ديبلومايتيك “أحد أبرز الجيوسياسيين في العالم”، مشيرًا إلى أن علاقاته لم تُبنَ على القضايا الجنسية، بل على المال وسياسات القوة التي شكّلت عنصرًا أساسيًا في الهيمنة الأمريكية العالمية.

وأشارت المجلة إلى أن إبستين، بصفته وسيطًا بين الاستخبارات الإسرائيلية والأوليغارشيين والفاسدين الأجانب، كان نتاجًا لبنية الهيمنة الأمريكية، أي النظام الاقتصادي النيوليبرالي وعصر العولمة النيوليبرالية.

إن قصة إبستين تُفهم فقط إذا علمنا أنه كان جزءًا من نخبة السياسة الخارجية، ما منحه قدرًا كبيرًا من الإفلات من العقاب. وكان يشاطرهم النظرة النيوليبرالية التي تسيطر على النخبة الأميركية منذ نهاية الحرب الباردة، مؤمنًا بإجماع واشنطن وهيمنة الجيش الأميركي وتحالفه مع إسرائيل، والعولمة، وخصخصة الحكومة، والتعليم التقني، وملذّات جنسية مهيمنة على الذكور، التي وصل بها إلى أقصى حدودها المريضة.

وفي رسالة إلكترونية إلى باراك عام 2015، أعرب إبستين عن أن ”العديد من الشركات تبحث عن منظور جديد يشبه المنظور العسكري في الإدارة“. وهذا الاندماج بين ثقافة الشركات والعسكرة هو أحد السمات المميزة للعصر النيوليبرالي، وقد كان إبستين في طليعة هذا التطور.

وأوضحت المجلة أنه في رسالة إلكترونية عام 2015 إلى إيهود باراك، كتب إبستين أن “كثيرًا من الشركات تبحث عن منظور جديد أقرب إلى العسكري في الإدارة”، مشيرًا إلى أن هذا المزج بين الثقافة المؤسسية والعسكرة يُعد من أبرز سمات الحقبة النيوليبرالية، وكان إبستين في طليعة هذا المسار.

واختتمت المجلة بالإشارة إلى أن وسائل الإعلام الرئيسية أظهرت قدرًا لافتًا من اللامبالاة تجاه طبيعة أنشطة إبستين الجيوسياسية، مؤكدة أن الإعلام التقليدي شارك منذ زمن في التغطية على الحجم الكامل لقضية إبستين، إذ كان التعتيم الأول يتمثل في تجاهل جرائمه الجنسية، وهي اليوم موثّقة بشكل أفضل.