منذ الأزمنة الأولى، تمركز الذئب على تخوم العمران البشري: قريب بما يكفي لالتقاط أثر الفريسة، وبعيد بما يكفي ليظلّ متفلّتًا من التدجين. وهو الكائن الوحيد تقريبًا من فصيلة الوحوش الذي استطاع أن يعيش في تلك الهوامش الملتبسة بين البرّي والمأهول. البشر من جهتهم اعتادوا وجوده هناك، لكنهم لا يتقبلون بسهولة وجود وحشٍ آخر يشغل المساحة ذاتها من التماس.
إنها تخوم يسكنها أيضًا مصاص الدماء في المخيال الثقافي؛ يتحرك بمحاذاة حياة البشر، يلاصقهم ولا ينتمي إليهم. تشبه العلاقة حلقات تتداخل أحيانًا بخشونة، وأحيانًا بنعومة، في غموضٍ لا يُفهم بسهولة.
هذا التماس الخفيّ يكشف جوهرًا مشترَكًا بين الإنسان والذئب:
ازدواج القوة والهشاشة، الشراسة والخوف.
فالذئب قد يظهر ضعيفًا، كما يبدو الإنسان قويًّا حدّ الوهم. كلاهما يملك القدرة على افتراس العالم، لكنه يدرك في الوقت ذاته أنه قابل للافتراس.
ومن هذا التشابه تولد صورة الذئب المنفرد (Lone Wolf)، وهو الإنسان الذي يمارس العنف والإرهاب دعمًا لأيديولوجيا أو حركة ما، دون ارتباط هيكلي مباشر أو مساعدة لوجستية منظّمة. يعمل بصمتٍ وتخفٍّ، ينفّذ ما يراه “مهمة” ذات طابع خلاصٍ أو انتقام، ويستقي دافعه الأساسي من تطرّفٍ أو كراهيةٍ أو إحباطٍ عميق.
الذئب المنفرد في المقاربة الأمنية.
يعرّف مركز فيريل للدراسات في برلين مصطلح “الذئاب المنفردة” بأنه توصيف أمني يطلق على الأفراد الذين ينفّذون عمليات إرهابية وحشية دون أي تكليف رسمي أو انتماء تنظيمي فعّال. إنهم نتائج لأفكارٍ متطرفة تتغذّى من الكراهية، لا من التوجيهات.
وتتفق مراكز الأبحاث الأمنية في العالم على أن الظاهرة لا تُنسب إلى دينٍ أو منطقة جغرافية بعينها؛ فهي ظاهرة عابرة للهويات والثقافات. ترجع جذورها الفكرية المعاصرة إلى دعواتٍ مبكرة في الولايات المتحدة لمقاومة النظام الاتحادي دون قيادة، كما فعل المتطرف لويس بيم عام 1983. وعادت الظاهرة إلى الواجهة في تسعينيات القرن الماضي من خلال جماعات عنصرية قادها كلٌّ من أليكس كيرتس وتوم متزغر لتشكيل خلايا فردية تنفذ هجمات بوحشية فائقة.
من أبرز تمظهرات هذه الظاهرة:
أندرس بريفيك – النرويج، 2011 قتل 77 شخصًا، ووصفته نيوزويك لاحقًا بأنه “أخطر ذئب منفرد في تاريخ أوروبا”.
مرتكب مجزرة كرايست تشيرش – نيوزيلندا، 2019 الذي مجّد بريفيك علنًا.
كما ظهرت أدبيات خاصة تُنظّر لهذه الممارسات، مثل كتيب
“استراتيجية الذئب المنفرد” (أبو أنس الأندلسي/2015)
الذي تحدث عن “محمد مراح” منفذ عملية تولوز واعتبره رائدًا للمفهوم.
التحدي الأمني العميق:
ترى الأجهزة الأمنية أن الذئاب المنفردة أصعب في الرصد من التنظيمات الهرمية، لأنها تعمل في الظلّ ولا تخضع لقنوات اتصال قابلة للاختراق والمراقبة. وقد أشار جيمس كومي، المدير السابق لـFBI، إلى قدرة تنظيم داعش على حشد آلاف المؤيدين عبر الإنترنت داخل الولايات المتحدة وحدها. فما بالك بأوروبا أو العالم الإسلامي؟
إن توظيف “الذئب المنفرد” بات جزءًا من استراتيجيات حروب الجيل الرابع و”حروب المنطقة الرمادية” التي تستخدم الإرهاب كأداة عسكرية وسياسية. بل إن التوصيف نفسه قد يُستغل أحياناً لإخفاء شبكات التطرف المنظمة وتبرئتها من السياقات الأوسع التي تُنتجها.
_ قراءة فكرية: الحرب وإدارة المخاطر. يرى البروفيسور كريستوفر كوكر في كتابه.
الحرب في عصر المخاطر (1979 / الطبعة العربية 2012)
أن الحروب تحوّلت من كونها صراع إرادات إلى فن إدارة المخاطر المعقّدة. وفي هذا العالم المترابط، تتجدد أشكال العنف بأدوات غير مألوفة يصعب توقعها وضبطها.
العنف الفردي المتطرّف — مهما كانت مبرراته — هو فعل لا عقلاني، يخدم “غريزة مظلمة” داخل الفاعل قبل أي قيمة مزعومة.
الذئب المنفرد: ليس شرطًا أن يكون قاتلًا.
لا تقتصر الظاهرة على الإرهاب المسلح. يمكن إسقاطها على بعض الشخصيات في الاقتصاد والسياسة ممن يعملون بصمتٍ وعدوانيةٍ محسوبة. ومثال ذلك:
تشونغ شانشان أغنى رجال الصين (وفق مؤشر بلومبرغ)، ورئيس شركة
Nongfu Spring للصناعات الغذائية.
وُصف بـ”الذئب المنفرد” لأنه:
يبتعد عن السياسة كليًا
يرفض المشاركة في شبكات أثرياء الصين
يخطط في الظل
يحقق قفزات صادمة في سوق المال
فهو نموذج لافتراس اقتصاديٍّ دون ضجيج…
ذئبٌ يرتدي بدلة رسمية.
خلاصة القول:
الذئب المنفرد ليس مجرّد تصنيف أمني. إنه مرآة عميقة لفكّ شيفرة العنف الكامن في النفس البشرية.
هو الإنسان حين يفقد انتماءه، ويختار أن يحارب العالم وحده؛
إنسان تحوّل إلى ذئب،
ووحشٌ تحوّل إلى فكرة.






