المسار الثالث: من مأزق الخيارات القديمة إلى أفق سياسي جديد
يعيش الشعب الفلسطيني واحدة من أعقد لحظات تاريخه الحديث.. لحظة تتقاطع فيها الهجمة الاستيطانية الشرسة مع حالة الانقسام الداخلي، وتراجع فعالية البرامج السياسية التقليدية، وتحول العالم نحو قراءة جديدة للصراع. وفي ظل هذا المشهد المأزوم، يبرز سؤال جوهري: كيف يمكن إعادة بناء المشروع الوطني الفلسطيني بطريقة تحفظ الوجود، وتستعيد المبادرة، وتفتح أفقا واقعيا للعدالة على كامل أرض فلسطين التاريخية؟
من هذا السؤال تنطلق فكرة مسار الدولة الديمقراطية.. رؤية سياسية جديدة تقوم على مبدأ المواطنة المتساوية، وتتعامل مع فلسطين كوحدة أرض وشعب من حيفا ويافا وعكا واللد إلى القدس والضفة وغزة والشتات، وترى في إنسان هذه البلاد – فلسطينيا كان أو يهوديا – مكونا خاضعا لقانون واحد، بديلا عن منظومة الاستعمار والفصل العنصري التي تحكم حاضرنا.
عجز البرامج التقليدية وواقع الانهيار
وصلت البرامج السياسية المتداولة منذ عقود إلى نقطة عجزٍ واضح.
حل الدولتين تحول إلى وهم نظري مع استمرار الاستيطان وضم الأرض والتهويد المتسارع للقدس وتفتيت الضفة، فيما تحول الانقسام الداخلي إلى بنية دائمة تضعف قدرة الفلسطينيين على الفعل وتسهل على الاحتلال فرض وقائع جديدة.
ما جرى في السنوات الأخيرة – من الإبادة في غزة، إلى التفريغ الديموغرافي في القدس، إلى توسع المستوطنات في الضفة، إلى سياسة التجويع والوصاية – ليس مجرد تراكم أزمات، بل نتيجة مباشرة لغياب برنامج وطني قادر على حماية الأرض والإنسان.
وحدة الشعب.. من وحدة الأرض
لا يمكن بناء أي مشروع سياسي دون رؤية تشمل الفلسطينيين كافة، حيثما وجدوا: في غزة المدمرة، والضفة الممزقة، والقدس المعزولة، ومدن الداخل من حيفا إلى اللد، ومخيمات لبنان وسوريا والأردن، والشتات حول العالم.
الشعب الفلسطيني واحد، لأنه يعيش مصيرا واحدا، ولأن الاحتلال يتعامل معه كجسد واحد، مهما اختلفت الجغرافيا وتسميات الهويات القانونية.
من هنا فإن وحدة الشعب ليست شعارا، بل أساسا لإعادة تشكيل المشروع الوطني، لأن أي رؤية لا تجمع هذا الشعب تحت مظلة سياسية واحدة ستعيد إنتاج الانقسام والفشل.
لماذا الآن؟
قد يعتقد البعض أن “الدولة الديمقراطية الواحدة” فكرة جديدة، لكنها في الحقيقة طرح قديم تبنته قوى فلسطينية عديدة.
ما تغير اليوم هو الظروف الموضوعية والذاتية التي تجعل هذا الطرح ليس مجرد خيار فكري، بل ضرورة وجودية.
من هذه الظروف:
الضم الفعلي لأرض فلسطين عبر الاستيطان.
تهجير ممنهج يهدد الوجود الفلسطيني في القدس والضفة والنقب والغور.
الإبادة في غزة وما رافقها من محاولات تفريغ ديموغرافي.
الانقسام الفلسطيني الذي عطل قدرة الشعب على امتلاك أداة سياسية موحدة.
تصاعد حركة التضامن العالمية وتغير الرأي العام الغربي.
ظهور قوى ديمقراطية يهودية داخل إسرائيل – مهما كانت محدودة – ترفض الفاشية والعنصرية.
فشل كل المسارات السابقة في وقف التوحش الاستيطاني أو استعادة الحقوق الوطنية.
إن اجتماع هذه العوامل يجعل من الضروري إطلاق مسار سياسي جديد، ينهض من قلب الواقع بدل الهروب منه.
المسار الثالث: من مأزق الخيارات القديمة إلى أفق سياسي جديد
مع انسداد أفق التسوية وانهيار حل الدولتين من جهة، وعجز سياسة “إدارة الصراع” وردود الفعل من جهة أخرى، يقدم مسار الدولة الديمقراطية نفسه كمسار ثالث.. مسار لا يقوم على إعادة تدوير الخيارات القديمة، بل على بناء قدرة فلسطينية جديدة تملك رؤية واضحة وبرنامجا وطنيا قابلا للتطبيق.
هذا المسار يحقق:
إعادة تعريف الصراع: ليس صراع حدود، بل صراع مع منظومة استعمارية إحلالية يجب تفكيكها عبر نموذج ديمقراطي قائم على المساواة والعدالة.
توحيد الجغرافيا السياسية لفلسطين التاريخية: أرض واحدة وشعب واحد وقانون واحد، من حيفا ويافا وعكا واللد إلى القدس والضفة وغزة والشتات.
برنامج وطني جامع: يفتح أفقا سياسيا جديدا يتيح للمجتمع الفلسطيني تنظيم نفسه عبر مشروع واضح، بدل ضياع الجهد في إدارة الانقسام.
دعم دولي متصاعد.. ونافذة تاريخية
للمرة الأولى منذ عقود، لا يقف العالم في مكانه.
حركات طلابية ونقابية وبرلمانية حول العالم بدأت تتعامل مع القضية الفلسطينية بمنطق الحقوق، لا بمنطق النزاع.
نظام الفصل العنصري في فلسطين بات موضوعا معلنا في النقاشات الأكاديمية والإعلامية والقانونية.
هذا التحول يجب استثماره عبر نموذج سياسي قادر على إقناع العالم بدعم خيار لا يقوم على الإقصاء ولا على استمرار الاحتلال، بل على الدولة الديمقراطية الواحدة التي تعيد فلسطين كفضاء حر لكل سكانها.
حق العودة قابل للتحقق
الدولة الديمقراطية هي المسار الوحيد الذي يجعل حق العودة قابلا للتحقق، لأنه لا يقسم الأرض ولا يضع حدودا تمنع الفلسطيني من ممارسة حقه الطبيعي في العودة إلى حيفا ويافا واللد والجليل والنقب، وليس إلى كانتونات مغلقة.
إعادة بناء المشروع الوطني
لا يمكن لأي رؤية أن تنجح دون أدوات سياسية جديدة، تقودها قيادة موثوقة تنبع من الشعب وتحاسب أمامه.
لكن تأسيس هذه الأدوات يبدأ من اتفاق الفلسطينيين على الهدف قبل الشكل التنظيمي.
أما انتظار التوافق الداخلي قبل طرح برنامج سياسي جديد، فهو وصفة لإدامة الانقسام.
مسار الدولة الديمقراطية ليس بديلا قسريا، ولا إلغاءً لتضحيات الشعب الفلسطيني، ولا تجاوزا لتاريخه الكفاحي، بل محاولة جادة لفتح أفق جديد بعد أن وصلت كل الطرق الأخرى إلى جدار مسدود.
نحن اليوم أمام لحظة صريحة:
إما أن نواصل الدوران في الحلقة ذاتها – انقسام، تهويد، ضم، حصار، وصاية – وإما أن نجرؤ على طرح رؤية سياسية شاملة تحمي وجودنا وحقوقنا.
إن مسار الدولة الديمقراطية ليس حلما ولا خيالا، بل طرح واقعي وضروري يعيد الاعتبار لوحدة الأرض والشعب، ويقدم للعالم نموذجا يمكن الدفاع عنه أخلاقيا وسياسيا.
فلسطين تستحق مشروعا أكبر من التقسيم، وأعمق من إدارة الأزمات، وأجرأ من الصمت.
ومستقبل هذا الشعب لن يكتب إلا عندما يمتلك شجاعة إعادة تعريف نفسه وحقوقه وأدوات نضاله.
وهذا ما يسعى إليه المسار الثالث.. مسار الدولة الديمقراطية الواحدة.





