نحو سوسيولوجيا عربية للهيمنة: بين الحتميات التاريخية وإمكانات التحرّر:

بقلم: عماد خالد رحمة _ برلين.

 

هل نملك نحن العرب نظرية قادرة على استجلاء مظاهر الهيمنة الاجتماعية؟ أم أننا ما نزال نراوح مكاننا بين إرث فكري مستورد ونماذج تفسيرية مستهلكة، دون أن ننحت أدواتنا المعرفية الخاصة لفهم واقعنا الذي يمور بالاستبعاد والقهر وإعادة إنتاج الخضوع؟
هذا السؤال لا ينطلق من نزعة محلية ضيقة، بل من إدراك عميق بأن أي مشروع نهضوي لا يستقيم دون علمٍ اجتماعي نقدي يعري العلاقات السلطوية الكامنة في تفاصيل الحياة، ويمنح المهمَّشين صوتاً وفاعلية لا مجرّد وصفهم كضحايا بلا تاريخ.
_ بورديو وخرائط الهيمنة:
استطاع بيير بورديو ــ كما تقول عالمة الاجتماع نانسي فرايزر ــ أن يحوّل علم الاجتماع من وصفٍ للواقع إلى مقاوَمةٍ للواقع. فهو لم يكن مجرّد شارح لماركس أو مكمل لفيبر أو مُعيد قولبة لدوركهايم، بل ابتكر منظومة مفاهيمية جديدة: الهابيتوس، الرأسمال الرمزي، العنف الرمزي، الحقول الاجتماعية… مفاهيم كشفت أن الهيمنة ليست دائماً قهراً مادياً مباشراً، بل كثيراً ما تكون تسللاً ناعماً إلى الإدراك والذوق والتعليم واللغة ومعايير الاحترام.
لقد أثبت بورديو أن الثقافة البرجوازية تعمِّم ذاتها كمعيار كوني، وأن الطبقات المهمشة تتماهى غالباً مع قيم مضطهديها بشكلٍ لا واعٍ، في استبطان صامت للهزيمة. يقول بورديو:

“أخطر أشكال الهيمنة، تلك التي لا يشعر المهيمن عليه بوجودها.”

_ الهيمنة في السياق العربي: عنفٌ بلا نقد.
يمتلئ المجتمع العربي بكلّ أشكال الهيمنة التي تحدث عنها بورديو: هيمنة الدولة التسلطية، وهيمنة رأس المال الريعي، الهيمنة الطائفية والقبلية، هيمنة المركز الثقافي على الهامش، الذكورية على النساء، السلطة الدينية على العقل… ولكن أين النظرية التي تفكك هذه البنى؟
لقد عبّر هشام شرابي عن “النظام الأبوي المستحدث” الذي يعيد إنتاج التسلط داخل السياسة والأسرة والتربية. وتحدّث نصر حامد أبو زيد عن “سلطة النص” التي تتحول إلى قيود معرفية. وأضاء عبدالله العروي على مأزق الأيديولوجيا العربية التي تتخبط بين التراث والحداثة دون قدرة على بناء وعي تاريخي. غير أن هذه الجهود بقيت مشاريع فردية، لم تتحول إلى منظومة تحليلية عربية للهيمنة.
فنحن غالباً نستعير المفاهيم الغربية دون تفكيك سياقاتها، أو نغرق في خطاب أيديولوجي يكتفي بالاحتجاج دون التحليل العلمي، أو نستبدل السؤال السوسيولوجي بالسجال السياسي.
_ نحو سوسيولوجيا عربية تحرّرية:
ما الذي ينقصنا إذن؟
1. تأسيس بنى معرفية مستقلة
فالسوسيولوجيا العربية ما تزال محكومة بتمويل الدولة ومراقبتها، ما يجعل “العنف الرمزي” للدولة يحرس المعرفة ذاتها.
2. إدماج المهمشين في إنتاج المعرفة:
كما طالب باولو فريري في “تعليم المقهورين”: لا يمكن تحرير الناس من دون مشاركتهم في فهم شروط قهرهم.
3. توطين المفاهيم:
أي خلق مفاهيم نابعة من واقعنا: من العشوائيات، الريع النفطي، المخيمات، الحدود المغلقة، الجسد المُراقَب، الإعلام المُسَيطر عليه… لا من مخابر باريس وحدها.
4. الاعتراف بأن التحرر مشروع تاريخي.
فكما قال إدوارد سعيد: “المعرفة ليست بريئة.” بل هي جزء من صراعٍ على تمثيل العالم وتحديد من يحق له الكلام.
السؤال المؤجل:
متى نملك سوسيولوجيا عربية ترى في المهمشين لا مشكلةً اجتماعية بل طاقةً واعية قادرة على إعادة تشكيل المجتمع؟
متى نصوغ نظرية تنزع الأقنعة عن سلطةٍ تتوارى خلف الدين أو الوطنية أو التقاليد؟
متى نفهم أن الهيمنة ليست قدراً بل بناءً تاريخياً يمكن تفكيكه؟
إن الطريق لا يبدأ من فراغ:
لقد مهّد بورديو الطريق، وأضاء ماركس جذوة الصراع، ووسّع فيبر مفهوم السلطة، ودقّ دوركهايم ناقوس المجتمع، وفضح فانون عنف المستعمِر.
لكنّ على العرب أن يكمّلوا الرحلة، فلا تحرّر بلا معرفة، ولا معرفة بلا نقد،
ولا نقد بلا شجاعة ترى في العالم ما يجب أن يكون، لا ما فُرض أن يكون.
ربما أزفت اللحظة التي نبني فيها علم اجتماعٍ عربيّاً يعانق المهمَّشين،
ويُعلن: لا حياة سعيدة في ظلّ الهيمنة، ولا نهضة دون مقاومة العنف الخفي الكامن في العقول قبل الشوارع.