السودان بين وعود التسوية ودروس عقود من الانحدار السياسي

محمد الرميحي

أعاد اللقاء الأخير بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان تسليط الضوء على واحدة من أكثر الحروب المأساوية في العالم العربي، هي الحرب الشرسة الدائرة في السودان.
في حديثه، تعهد ترامب بالعمل على إنهاء هذه الحرب، بالتعاون الوثيق مع كل من دولة الإمارات والسعودية ومصر، مؤكداً أن ما يجري في السودان لم ينل ما يستحقه من اهتمام عالمي، رغم كلفته الإنسانية الباهظة.
هذا التعهد يعيد طرح سؤال جوهري، كيف وصل السودان، البلد الغني بموارده والأكثر قدرة على تحقيق تنمية ذاتية في هذه القارة السوداء إلى هذه الدرجة من الانهيار السياسي والاجتماعي؟
عند الاستقلال عن بريطانيا عام 1956 كان السودان ينظر إليه دولة تمتلك كل مقومات النهوض، الأراضي الزراعية الخصبة، والثروات الطبيعية، والموارد المالية الهائلة، إضافة إلى نخبة متعلمة خرجت من جامعات أنشأها البريطانيون، بمعايير أكاديمية عالية، لقد أنتجت تلك المؤسسات كوادر سودانية، شاركت في نهضة بلادها، وأسهمت في مختلف القطاعات في العالم العربي، لكن هذه البداية الواعدة لم تستمر طويلاً، الدولة الجديدة دخلت في دوامة الانقلابات العسكرية، والصراع على السلطة، والعناوين الأيديولوجية الزاعقة، وهو ما أضعف المؤسسات، وأعاق بناء دولة مدنية مستقرة.
شكل انقلاب جعفر النميري 1969 نقطة تحول جوهرية في المسار السياسي للسودان، النميري الذي جاء بلا برامج واضحة، ودون رؤية لبناء دولة حديثة، سرعان ما انزلق نحو تحالفات أيديولوجية متناقضة، إلا أن أكثرها سواداً كان تحالفه مع الدكتور حسن الترابي، زعيم الحركة الإسلامية السودانية.
تحت تأثير هذا التحالف، أقر النميري ما عرف بقوانين سبتمبر 83، التي أسست لفكرة الحكم الإسلامي بصيغة متشددة، ووضعت السودان على مسار صدامي داخلي، سواء شمالي جنوبي، أو شمالي- شمالي، وأدت إلى تصاعد التوترات، أدى في نهايته إلى تحول السودان من دولة تتجه إلى بناء مؤسسات حديثة، إلى دولة تتآكل فيها شرعية القانون، ويتعاظم فيها تأثير الجماعات الأيديولوجية المدعومة من ضباط الجيش الحركيين.

ومع انقلاب عمر البشير 1989 تعمقت الجراح، وقد حكم السودان ثلاثة عقود، عبر شبكة معقدة من الإسلاميين وقادة الجيش، والأجهزة الأمنية.
خلال تلك السنوات، تفاقمت الصراعات في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق، وتدهورت البنية الاقتصادية بشكل كارثي، بسبب الفساد وسوء الإدارة والرشوة، وتكرس حكم يقوم على التمكين الأيديولوجي، أي استحواذ قلة قليلة من السودانيين على الثروة والسلطة معاً، وتسبب عهد البشير بانفصال جنوب السودان 2011، وهو خسارة استراتيجية واقتصادية ضخمة، تبعه انهيار اقتصادي وأمني متسارع، أما مرحلة ما بعد البشير منذ عام 2019 بعد أن خرج السودانيون إلى الشوارع حاملين آمالاً كبيرة لفتح صفحة جديدة، وبناء دولة مدنية ديمقراطية، وتشكلت حكومة انتقالية، فجمعت بين المدنيين والعسكريين، ولكن سرعان ما انفجر الصراع بين جنرالات الجيش، وقوات الدعم السريع، التي أسسها البشير، ما أدى إلى حرب داخلية مدمرة، بدأت منذ 2023 وما زالت مستمرة، وحولت المدن السودانية، وعلى رأسها الخرطوم والفاشر، إلى ساحات حرب.

هذه الحرب أنهت ما تبقى من مؤسسات الدولة، وخلفت واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم، ملايين النازحين، ومئات الآلاف من القتلى، وانتشار المجاعة، وانهيار كامل للخدمات.
أمام هذا الانهيار، بدأت الإمارات والسعودية كونهما أكبر داعمين لجهود الوساطة، سواء في مسار جدة، أو في الاتصالات السياسية الهادفة إلى وقف النار، مع دخول الولايات المتحدة مؤخراً عبر تصريحات ترامب الأخيرة إلى دائرة الاهتمام بالسودان، تتشكل نافذة جديدة، يمكن أن تقود إلى وقف الحرب، وإطلاق مشاريع سياسية وفاقية.
فهل يمكن إنقاذ السودان، وإنهاء حالة الجيشين، وإعادة بناء المؤسسات المدنية، ووضع مشروع طويل المدى يعيد السودان إلى مكانه الطبيعي، وقيام مصالحة مجتمعية تشمل الأقاليم المختلفة المتضررة من الحرب؟ أم يظل الفرقاء في أنانيتهم حتى يقسم السودان؟ فلننتظر!

*نقلاً عن “البيان”.