في الوقت الذي يعيش فيه أهل غزّة واحدةً من أقسى المآسي في تاريخ شعبنا، ما زال خطاب قيادة حماس يدور في فلك الانتصارات الوهمية والصمود الأسطوري، وكأن حجم الكارثة التي حلّت بأكثر من مليوني فلسطيني مجرّد تفاصيل عابرة في مشهدٍ دعائي لا ينتهي. الصمود الحقيقي هو صمود الشعب الذي دفع الثمن كاملاً: أرواح تُزهق، بيوت تُهدم، أراضٍ تُجرف، وتهجير يفوق ما تحتمله الجبال. ومع ذلك، تُصرّ الحركة على نسب هذا الصمود لنفسها، فيما بقيت قياداتها في الأنفاق أو خارج حدود الوطن، بعيدةً عن جحيم النار التي التهمت البشر والحجر.
المشهد الميداني اليوم يفنّد كل ادعاءات القوة التي تروّجها حماس. مجموعات محاصَرة في أنفاق الجنوب، مقاتلون بلا قيادة فاعلة، ومشهد تنظيمي فقد القدرة على المبادرة. ما تبقّى من ترسانة الحركة لا يتجاوز أسلحة تُستخدم في غير موضعها، وغالباً تُسلّط على صدور أبناء الشعب بدلاً من مواجهة الاحتلال. هذه الحقيقة المؤلمة تهدم كل خطاب “السلاح المقدّس” الذي تطالب الحركة الجميع بالانصياع له.
ولا يمكن تجاهل ما يعانيه الغزيون من استغلال فجّ للمساعدات الإنسانية. فقد تحوّلت غزة — في ظل حكم حماس — إلى ما يشبه “البقرة الحلوب”، تُستنزف مواردها لخدمة فئةٍ محدودة بينما يزداد الفقراء فقراً، ويُدفع المحتاجون دفعاً لشراء ما يجب أن يُقدّم لهم مجاناً. العصابات التي تسيطر على المعابر والمخازن وتعيد بيع المساعدات باتت جزءاً من منظومة حكم تُقدّم الربح الحزبي على الكرامة الوطنية.
هذه السياسات أدّت إلى هجرة الآلاف من شباب غزة إلى المجهول، بحثاً عن حياةٍ حرمهم منها الاحتلال أولاً، وحكم حماس الداخلي ثانياً. فمن بقيَ في القطاع يواجه الجوع والبطالة والتهديد، ومن خرج منه يواجه الغرق والموت والمجهول. إنها هجرة قسرية صامتة، لا ترغب الحركة في الاعتراف بها، لأنها تكشف حجم الفشل الذي راكمته سنوات طويلة من الحكم الفردي المغلق.
لقد دُمّر في غزة كل شيء: البشر، الشجر، الحجر. ولكن الأخطر من الدمار المادي هو الدمار المعنوي والسياسي الذي مزّق النسيج الوطني، وحوّل المقاومة من مشروع تحرّر إلى أداة بيد فصيل واحد يتصرّف بمنطق الفوضى والغوغائية. لقد فقدت الشعارات التي رفعتها الحركة في بداية الحرب معناها، وفقدت قدرتها على الإقناع، لأنها أصبحت منفصلة تماماً عن الواقع الذي يعيشه الناس.
وأمام هذا الانسداد الوطني والكارثة الممتدة، لا بدّ من العودة إلى البيت الجامع الوحيد لشعبنا: منظمة التحرير الفلسطينية. لقد أثبتت التجارب أنّ غياب الوحدة هو أكبر هدية للاحتلال، وأنّ تجاوز الانقسام يبدأ من بوابة واحدة: دخول جميع القوى، وفي مقدمتها حماس، إلى منظمة التحرير، الممثل الشرعي والوحيد لشعبنا، في إطار شراكة وطنية حقيقية تحترم البرنامج الوطني ولا تفرض مشروعاً أحادياً على ملايين الفلسطينيين.
فلا مستقبل لقضيتنا دون وحدة القرار، ولا وحدة دون منظمة التحرير، ولا منظمة دون أن يتحمّل الجميع مسؤولياتهم داخلها، لا خارجها ولا على حسابها.
اليوم، وبعد كل هذا الألم، لا بدّ من سؤالٍ مباشر: ماذا حقّقت حماس من كل ما طرحته قبل الحرب وأثنائها؟
الحقيقة أنّ الإجابة واضحة: لم يتحقق شيء سوى مزيد من الدمار، مزيد من الدم، مزيد من التمزّق الداخلي، ومزيد من التشويه لصورة القضية الفلسطينية. لقد دفعت غزة الثمن وحدها، فيما بقيت القيادة ترفع الشعارات ذاتها، كأنّ الزمن توقّف عند لحظةٍ لا تريد الحركة الخروج منها.
إنّ شعبنا يستحق قيادة مسؤولة، تُقدّم مصلحة الوطن على مصلحة التنظيم، وتضع حياة الناس فوق كل اعتبار. ويستحق مشروع مقاومة حقيقيًّا موحّدًا، لا مقاومة تُدار من الأنفاق وتُسوّق عبر الشاشات. ويستحق قبل كل شيء أن يُسمع صوته، وأن يكون هو صاحب القرار، لا أن يُختزل مستقبله في يد فئة واحدة.
ورغم الجراح العميقة، فإنّ نضال شعبنا لن يتوقف. سيبقى مستمرًّا، جيلاً بعد جيل، حتى تتحقق الدولة الفلسطينية المستقلة كاملة السيادة، بعاصمتها القدس، على ترابنا الوطني. هذا هو الطريق، وهذه هي البوصلة التي لن تنحرف مهما حاولت المشاريع الصغيرة أن تشتتها.
لقد آن الأوان أن نقول بوضوح: الوحدة الوطنية تحت راية منظمة التحرير هي الطريق، والدولة وعاصمتها القدس هي الهدف، وإرادة شعبنا هي السلاح الذي لا يُقهر





