في الخامس والعشرين من تشرين الثاني من كل عام، تتبدّى في الذاكرة الإنسانية صورةُ امرأةٍ تقف عند تخوم الألم، شاهدةً على تاريخٍ طويلٍ من الوجع والصمت، ومصمّمةً في الآن ذاته على أن تُعيد تشكيل العالم بصلابتها وحقّها المكفول في الحياة الكريمة. إنّه اليوم العالمي للقضاء على العنف ضد المرأة، اليوم الذي لا يُرفع فيه الستار عن معاناةٍ فردية فحسب، بل عن جرحٍ كونيٍّ ممتدّ عبر الأزمنة، يُنادى فيه بالإنصاف، ويُستصرَخ الضمير الإنساني كي يعيد التوازن إلى ميزانٍ اختلّ منذ قرون.
منذ إعلان الأمم المتحدة عام 1993 وثيقتها المرجعية حول القضاء على العنف ضد المرأة، تبيّن للعالم أن العنف ليس فعلاً عابراً، ولا خطأً اجتماعياً طارئاً، بل منظومةٌ مترسّبة في البنى الاجتماعية والثقافية والسياسية، تتجلّى في أبشع صورها: قهرٌ نفسي، وضربٌ وإيذاءٌ جسدي، واعتداءات جنسية، وحرمانٌ تعسفي من الحرية، وممارسات تفرضها الأعراف حيناً ويشرعنها الجهل حيناً آخر. كلّها وجوهٌ لعملة واحدة تُسلب فيها المرأة حقّها في الأمان والأمانة على جسدها وكرامتها، سواء في الفضاء الخاص أو في الساحات العامة.
وليس العنف مجرد حادثة تُروى، بل هو سلسلة من التداعيات المتتابعة التي تصيب المرأة في عمق حياتها: من تقييد وصولها إلى التعليم، إلى إقصائها عن فرص العمل، إلى دفعها إلى هامش المشاركة في الشأن العام. إنّ الفتاة التي تُحرم اليوم من مقعد الدراسة، هي ذاتها المرأة التي ستُحرَم غداً من المشاركة في صنع القرار، والتي سيتكرّس ضدّها العنف بوصفه قدراً لا خياراً.
وتزداد الصورة قتامة حين تتقاطع الأنثوية مع عوامل أخرى: الإعاقة، الانتماء العرقي، الفقر، النزاعات المسلحة، والفوضى الاجتماعية التي تصنعها الحروب. عندها يصبح جسد المرأة ساحةً للاستباحة، وصوتها غباراً في الريح. فالحروب لا تهدم المدن وحدها؛ بل تهدم أيضاً الحماية الأخلاقية والقانونية التي يفترض أن تحيط بالنساء، كما أنها تُفاقم احتمالات العنف الجنسي والإكراه والاستعباد.
ورغم وضوح القوانين الدولية وصرامة نصوصها، ما يزال العنف ضد المرأة أحد أكثر الانتهاكات انتشاراً وأقلّها إبلاغاً. الصمت هو الجدار الأكثر فتكاً: صمت الخوف من العار، صمت الأسر التي تُخفي الجريمة كي «تحفظ السمعة»، وصمت مؤسسات عدلية عاجزة عن حماية الضحايا. وهكذا، يصبح كلُّ يوم تتحسّس فيه امرأةٌ جُرحاً لم تجرؤ على البوح به امتداداً لليوم العالمي، لكنه يوم غير مُعلن، يومٌ مُلطّخ بوحدة العنف.
ويتخذ العنف أشكالاً لا تُحصى: من الاغتصاب الزوجي الذي يُغفل في كثير من التشريعات، إلى التحرّش في أماكن العمل، إلى الختان، والزواج المبكر، والإكراه على الزواج، والقتل بدعوى «الشرف»، وصولاً إلى التمييز الاقتصادي والطبقي الذي يحطّ من قيمة وجودها ذاته. كلها مظاهر تتغذّى على ثقافةٍ ترى المرأة أدنى مرتبة، وأقلّ قدرة على امتلاك مصيرها.
ومع ذلك، فإنّ التاريخ يشهد بأن المرأة ليست طارئة على المشهد الإنساني، بل هي ركيزته الأولى. فالدراسات الأنثروبولوجية، منذ مورغان إلى إنجلز، تؤكّد أن المجتمعات الأولى عرفت للمرأة قدسية المكانة وفاعلية الدور، قبل أن تتشكّل الطبقات وتعلو السلطويات فيقع القلب الإنساني تحت ثقل الهرميات الذكورية.
وقد شهد العالم تحوّلات هائلة، خصوصاً بعد القرار التاريخي 1325 لمجلس الأمن عام 2000، الذي اعترف بدور المرأة في بناء السلام والأمن. كما شكّلت «هيئة الأمم المتحدة للمرأة» منذ 2011 محوراً أساسياً في الدفاع عن المساواة وتمكين النساء من المشاركة في التنمية وصنع القرار. غير أن وإذ اعتُمدت اتفاقية سيداو وروّجت بعض الجهات لما يسمّى «النسوية الجذرية» في أطر لا تراعي الخصوصيات الثقافية والدينية، فقد نشأت ردود فعل واسعة في المجتمعات العربية والإسلامية، معتبرةً أن حماية المرأة يجب أن تُبنى على كرامتها الإنسانية لا على صيغ تتصادم مع بُناها الثقافية. وهنا تبرز الحاجة إلى مقاربة عادلة، لا تستنسخ النماذج الغربية حرفياً، ولا تُغلق الباب أمام الإصلاح، بل تُوازن بين المبادئ الكونية والخصوصيات الاجتماعية التي تحفظ تماسك الأسرة ولا تنتقص من حقوق النساء.
ورغم مبادرات الإصلاح، لا يزال الزمن بطيئاً حدّ الوجع. فقد أشار المنتدى الاقتصادي العالمي إلى أن المرأة تحتاج إلى قرون لتحقيق التكافؤ الكامل مع الرجل في التعليم والصحة والتمثيل السياسي والفرص الاقتصادية. وكلّما اتسعت الهوّة بين الشمال والجنوب، ازداد الظلام في وجه النساء الفقيرات، واشتدّت قبضة التهميش على من يعشن في ظل الفقر والجوع والصراعات وحكم الأعراف.
إنّ اليوم العالمي للقضاء على العنف ضد المرأة ليس مناسبةً للخطابة، بل يومٌ لفتح الأعين على مسؤوليةٍ مشتركة، يتقاطع فيها القانون مع الوعي، والعدالة مع التربية، والسياسة مع الأخلاق.
إنّه دعوة إلى أن نتوقّف عن ترديد الشعارات، ونبدأ في بناء عالمٍ لا تُهدَد فيه امرأةٌ لأنها امرأة، ولا يُعاقَب جسدٌ لأنه أنثى، ولا تُطفأ روحٌ تحت رماد الخوف.
ولعلّ أقدس ما في هذا اليوم أنّه يعيد للمرأة حقّها الأول: حقّها في أن تكون إنساناً كاملاً، لا نصفاً مكسوراً؛ شريكةً في كتابة قدرها، وفي صناعة المستقبل الذي يليق بها وبالعالم الذي ينهض بها، لا عليها.





