فكرة الدولة ـ الأمة وانكشاف البنيان السردي للهويات:

بقلم : عماد خالد رحمة _ برلين.

لم يَعُد السؤال «مَن نحن؟» قادرًا على حمل ثقله المفهومي كما كان من قبل؛ فقد تآكلت أصالته تحت وطأة التحوّلات الكبرى التي أصابت بنية الدولة الحديثة، وانكشفت معها هشاشةُ السرديات المُشرعِنة للهويات. صار السؤال، في عمقه الحقيقي، يقتضي تحوّلًا في الصياغة: «ماذا نحن؟»؛ فالهويّة لم تَعُد معطى ثابتًا أو بنية ماهوية، بل أصبحت مجالًا لإعادة التشكيل المستمر، وتوليد المعنى في فضاء سياسي وثقافي مضطرب.

لقد شهد العالم، خلال العقود الأخيرة، اهتزازًا جوهريًا في نموذج الدولة ـ الأمة الذي شَكَّل إطارًا ناظمًا للهوية الجماعية منذ القرن التاسع عشر. هذا الاهتزاز لم يكتفِ بتفكيك الارتكاز القديم بين الأرض واللغة والذاكرة، بل كشف عُمْقَ هشاشة السرديات التي حاولت توحيد الجماعات تحت مظلة هوية واحدة. ومع تفكك هذه السرديات، ظهرت فضاءات جديدة: هويات متشظية، وانتماءات سائلة، وجماعات تتنقّل بين الرموز والولاءات كمغامرات بلا توقيع، بلا أصل، وبلا خطّ سَيْري مُحدَّد.
لقد تحوَّل الإنسان المعاصر، في ظل هذا الانكشاف، إلى ما يشبه «الإنسان الأخير» الذي وصفه نيتشه، ولكن بصورة أكثر جماعية: بشرٌ يتنقّلون داخل ممالك وإمبراطوريات جديدة، إمبراطوريات لا تقوم على الجغرافيا فقط، بل على المعلومات والذكاء الرقمي والأسواق العابرة. ومع هذا التحوّل، تعرّضت جميع الأيديولوجيات، والديني منها خصوصًا، إلى امتحان عسير غير مسبوق تاريخيًا. فسقطت يقينيات، وتراجعت أخرى، وبات الدين ذاته في كثير من السياقات مغلوبًا بارتكاساته التاريخية أكثر من كونه سندًا معنويًا للأفراد.
أمام هذا المشهد، لم يَعُد الغرابة شعورًا طارئًا؛ بل أصبحت الغربة عن الذات قبل الآخر إحدى سمات الإنسان المأزوم الذي يجد نفسه داخل عالمٍ مُلتبس، عالمٍ يقرأ نصًّا واحدًا لم يكتبه أحد، لأنّ كل إنسان بات قادرًا أن يكون كاتبه ومؤوّله في آنٍ واحد. إنها إنسانية بلا توقيع، بلا مركز، تتجاور فيها المعاني دون أن تندمج، وتتقاطع دون أن تُنتج وحدةً دلالية ثابتة.
ومن هنا ينبثق السؤال الأكثر إلحاحًا:
ما معنى أن نفكّر بأنفسنا وحدنا في عصر الممالك والإمبراطوريات؟
وكيف يمكن أن نُدرج معضلاتنا، وهشاشتنا، وأسئلتنا الوجودية ضمن بنية الإنسانية الكبرى، بدل أن نُقفلها داخل حدودنا الضيقة؟
إنّ هذه المهمة ليست يسيرة؛ إنها تحتاج إلى عقول استطاعت، عبر التاريخ، أن تُمسك بالعصر وتعيد صياغته فلسفيًا. من إيمانويل كانط الذي أعاد تعريف الإنسان بوصفه ذاتًا عاقلة، إلى جيل دولوز الذي رأى الإنسان كتدفّق لا كجوهر ثابت، ومن فريدريش نيتشه الذي فكّك أوهام الهوية والأخلاق، إلى مارتن هيدغر الذي كشف هشاشة وجودنا الملقى في العالَم، وصولًا إلى «المسلم الأخير» بوصفه استعارة لكائن يقف على حافة الحضارة، يمتحن ذاته ووجوده في عالم لم يعد يشبه خرائط الانتماء القديمة.
إن إعادة التفكير في الدولة، وفي الأمة، وفي الهويات، ليست ترفًا فكريًا، بل ضرورة لفهم موقعنا في عالم يتحوّل بسرعة أكبر مما نستطيع استيعابه. فالهويّة لم تعد إجابة جاهزة، بل سؤالًا مفتوحًا يجب أن نعيد كتابته كل يوم.