تقول “CNN” إن عمّار وادي عرف جيدًا أنه يخاطر بحياته عندما خرج في حزيران/ يونيو ليحصل على كيس طحين من شاحنة مساعدات عند المعبر. كتب على شاشة هاتفه: “سامحيني يا أمي إذا صارلي إشي… واللي بيلقى تلفوني يخبر أهلي إني بحبّهم كثير.” لم يعد وادي إلى بيته، ووصلت رسالته لعائلته بعد أسابيع حين عثر أحدهم على الهاتف.

تقول عائلات عشرات الفلسطينيين إن أبناءهم اختفوا في المنطقة ذاتها، وإن مصيرهم ما يزال مجهولًا.
يكشف تحقيق CNN أن جيش الاحتلال الإسرائيلي استخدم الجرافات لدفن جثث بعض الشهداء في حفَر ضحلة بلا شواهد، وأنه في أحيان أخرى ترك الجثث ملقاة تحت الشمس، غير قابلة للاسترجاع بسبب إطلاق النار المستمر. ويشير خبراء القانون الدولي إلى أن سوء التعامل مع الجثث أو طمرها دون تعريف يمكن أن يشكّل انتهاكًا للقانون الدولي.
واعتمد التحقيق على مئات الصور ومقاطع الفيديو من منطقة زيكيم، إضافة إلى مقابلات مع شهود عيان وسائقين ينقلون المساعدات. وأظهرت صور الأقمار الصناعية أنشطة تجريف مستمرة طوال الصيف في المواقع التي قُتل فيها طالِبو المساعدات. كما ظهرت في مقاطع موثقة بوضوح جثث مدفونة جزئيًا قرب شاحنة مساعدات مقلوبة.


وتحدثت CNN إلى جنود إسرائيليين سابقين أكدوا أن الجيش جرّف جثث فلسطينيين في مواقع أخرى خلال الحرب، ودفنها بلا علامات. وذكر أحدهم أن وحدته دفنت تسعة أشخاص مطلع 2024 دون تسجيل موقع القبر.
ورغم نفي جيش الاحتلال استخدام الجرافات لـ”إزالة الجثث”، إلا أنه لم يجب عن سؤال ما إذا كانت تُستخدم لدفنها، واكتفى بالقول إن وجود الجرافات “أمر اعتيادي” لأغراض هندسية وأمنية.
وقالت خبيرة القانون الدولي جانينا ديل إن على أطراف الحرب “العمل على دفن الموتى بطريقة تضمن التعرف عليهم”، مؤكدة أن انتهاك كرامة الجثث قد يرقى إلى جريمة حرب.
بعد مرور ستة أشهر على اختفاء عمّار وادي، ما تزال عائلته غارقة في المجهول. تقول والدته: “عيوني ما بتوقف دموع لما أتذكره… بدنا نعرف شو صار بابني، بس هذا اللي بدناه.”
-منطقة بلا عودة
حللت “سي إن إن” مقاطع تُظهر فلسطينيين يهربون حاملين أكياس الطحين تحت وابل من الرصاص في 11 سبتمبر، ويبدو في أحدها رجل يُصاب من الخلف. ووفق خبير الصوتيات روبرت ماهر، فإن مصدر إطلاق النار يقع على مسافة تتطابق مع موقع عسكري إسرائيلي رصدته الأقمار الصناعية.
وتُظهر مقاطع أخرى جثثًا لم يتمكن أحد من سحبها بسبب استمرار إطلاق النار. وروى شهود أن الجيش أطلق النار على شاحنة مساعدات في 15 حزيران/ يونيو بعد أن ازدحم حولها عشرات الجائعين، ما أسفر عن سقوط قتلى تحت المركبة. وبعد أيام، سمح لطاقم دفاع مدني بالوصول، ليجد جثثًا متحللة وأجزاءً نهشتها الكلاب.
كما وثّقت CNN مقاطع جديدة لشاحنة مساعدات مقلوبة، تحيط بها جثث مدفونة بالرمال جزئيًا وكلاب ضالة بالقرب منها. واستطاع الدفاع المدني انتشال 15 جثة فقط، فيما بقيت نحو 20 جثة في المكان.
وتحدث نصف عدد من سائقي الشاحنات العاملة على خط زيكيم عن مشاهد متكررة لجثث مرمية، مؤكدين أنهم شاهدوا الجرافات الإسرائيلية تطمر الجثث أو تغطيها بالتراب. أحدهم قال: “كل ما أمر من هناك بشوف جثث… شفت الجرافات تدفنهم قدامي. المنطقة مثل مثلث برمودا، ما حدا بعرف شو بصير فيها”.
وظهرت الجرافات أيضًا في صور أقمار صناعية تزيل مباني كان المدنيون يحتمون خلفها من النار.

-شهادات جنود إسرائيليين
جنود سابقون أكدوا وجود “نمط واسع” لدفن الجثث أو تجريفها. أحدهم قال إن تسع جثث بقيت يومين أمام موقعه حتى بدأت الكلاب تأكلها، وإن القائد أمر الجرافة بتغطيتها بالرمال. وأضاف: “ما كان في أي تعليمات عن طريقة التعامل مع الجثث، ولا حتى تصويرها ليتعرف عليها أهلها”.
وشملت الانتهاكات التي وثقتها CNN سابقًا دفن مئات الفلسطينيين في قبور جماعية قرب مستشفى ناصر بخان يونس، إضافة إلى تجريف منهجي للمقابر الفلسطينية وتدمير شواهدها، وهي ممارسات اعترف الجيش الإسرائيلي ببعض أسبابها، لكنه لم يقدّم تفسيرًا شاملًا.
وما زال أهالي المفقودين يبحثون عن إجابات، بين من يظن أن أبناءه قد يكونون أحياء في معتقلات إسرائيلية، ومن يخشى أنهم دُفنوا سرًا. يقول حسام، شقيق عمّار وادي: “غياب عمّار كأنه غياب جزء منّا… إذا استشهد فالله يرحمه، وإذا عايش فإحنا نتمسّك بالأمل”.
وبعد ما يقرب من 6 أشهر من اختفاء وادي، لا تزال عائلته بلا إجابات، وبدلاً من إيجاد العزاء في رسالته الهاتفية الأخيرة، فإن والدة وادي، نوال مصلح، تطاردها فكرة قد لا تكتشفها أبدًا.
وقالت لشبكة CNN: “عندما يخطر ببالي، لا تتوقف عيناي عن البكاء.. نحن نقبل ما كتبه الله لنا، ولكننا نريد فقط أن نعرف ماذا حدث لابننا”.











