بقلم: د. منى أبو حمدية
أكاديمية وباحثة
في مدن الضفّة التي أتنقّل بينها، حيث تتبدّل الوجوه وتتشابه الملامح، يظلّ حضور الشرطة الفلسطينية ثابتاً كنبض، يؤشّر إلى حياة لا تزال تقاوم ثِقل الأيام. وفي كل محافظة أعبرها، أرى ضباط الشرطة واقفين بين الناس، يرممون الثقة ويصونون الأمن ويعيدون للمدن معنى الاطمئنان. لكن نابلس –بجبلها وقلبها وإيقاعها السريع– لها حضور مختلف، وحكاية تستحق أن تُروى بامتنان لا يُخبّأ.
هنا، في هذه المدينة التي تعمل ليلاً وتستيقظ مبكراً، أرى بأمّ عيني أثر القيادة الحكيمة على واقعها اليومي. ولذا لا بدّ من تثمين دور اللواء علام السقا مدير عام الشرطة الفلسطينية في الضفة الغربية، الذي يرسّخ في كل موقع روح الانضباط والمسؤولية، وكذلك دور مديرية شرطة نابلس بقيادة العميد عيسى عليان، الذي جعل من الأمن رفقة دائمة لشوارع المدينة.
لم يعد وجود الشرطة حدثاً عابراً ، بل جزءاً من نسيج الحياة:
دوريات لا تغادر الطرقات، يقظة تمتد ٢٤ ساعة، وحضور يذكّر الناس بأن مدينتهم ليست وحدها.
“شارع فيصل والدوار… حين يتحوّل النظام إلى ثقافة يومية”
أعمل في امتداد شارع فيصل حتى الدوّار، وأعاين المشهد يومياً من مسافة قريبة جداً:
نظام يسير على الأرض، لا في الشعارات.
احترام يتوزّع في خطوات الشرطي قبل أن يُسمع في صوته.
مدينة مزدحمة، لكنها لا تفقد انسجامها.
هذا الطريق المتوتر بطبيعته –باعتباره قلب نابلس التجاري– يشبه خلية لا تعرف السكون، لكن شُرطة المرور تحوّل الفوضى المحتملة إلى حركة منضبطة هادئة.
هناك، تحت الشمس أو المطر، تقف مجموعة من رجال الشرطة يعملون بمهنية عالية، لا يرفعون أصواتهم، ولا يتعاملون مع الناس إلا بمقدار يليق بإنسانيتهم.
وفي مقدّمتهم، يبرز الضابط أحمد المشهراوي، الذي تعوّدت المنطقة رؤيته واقفاً عند المعابر الازدحامية، ممسكاً بأيدي أطفال المدارس ليقطع بهم الشارع، كأنّ الأمان لديه ليس واجباً وظيفياً، بل غريزة إنسانية.
أراه يلتفت لكبار السن، ينتبه لذوي الاحتياجات الخاصة، يفسح الطريق لهم بحنان لا يُصطنع، وكأنّ المدينة أكبر من كونها شارعاً … إنها بيت يسكنه الجميع.
ويبرز إلى جانبه الضابط محمود حشّاش، الذي صار مشهد ابتسامته مألوفاً للمارة وسائقي المركبات. يقدّم المساعدة بطيب خاطر، يخفّف الازدحام، ويخلق حضوراً لطيفا يترك أثراً جميلاً على صورة جهاز الشرطة في نابلس.
هذا السلوك اليومي –البسيط في ظاهره، العميق في أثره– يجعل النظام ليس مجرد التزام بالقانون، بل التزاماً بالأخلاق.
“شرطة نابلس… نموذج يليق بمدينة تعاند الظلام”
ليس من السهل إدارة الأمن في مدينة بحجم نابلس، بكل حساسيتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية. ومع ذلك، تبدو الشرطة هنا قادرة على جمع عناصر القوة: التنظيم، والحضور، والمرونة، والتواصل الإنساني.
الأمن ليس سيفاً مسلطاً، بل يدٌ ممدودة، وصوتٌ هادئ، وشراكة مع الناس.
ومع كل محافظة أعبرها خلال عملي، يتأكد لي أن هذا الجهد ليس محصورا في منطقة دون أخرى، بل هو انعكاس لبنية كاملة تعمل بجدّ، من القيادة العليا حتى أصغر شرطي يقف عند إشارة مرور.
أرى تعبهم في عيونهم، ومسؤوليتهم في خطواتهم، وأسمع في طريقة تعاملهم مع الناس رسالة غير منطوقة:
“نحن هنا من أجلكم.”
“رسالة إلى أهل نابلس…”
في هذه الظروف الصعبة التي تمرّ بها الضفّة، حيث تتداخل التحديات وتتثقل الأيام، يصبح احترام الشرطة واجباً وطنياً وانسانياً.
رجال الشرطة ليسوا غرباء عن هذه المدينة؛ هم أبناءها، وإخوتها، وجزء من نسيجها الاجتماعي.
إنهم الذين يسهرون لكي ينام الناس، ويقفون على الطرقات لكي تبقى الحركة آمنة، ويواجهون كل ما قد يهدّد الاستقرار ليحافظوا على حياة لا تزال تبحث عن فسحة أمان.
فلنُبادلهم الاحترام، كما يُبادلونا الحضور.
ولنقف معهم، كما يقفون معنا.
ولنتذكّر دائما أن الأمن لا يُصنع بالسلاح وحده، بل بالثقة، وبالقلوب التي تعرف معنى الانتماء.
إلى شرطة نابلس، وإلى الشرطة الفلسطينية في كل المحافظات:
شكراً لأنكم تقفون في المسافة بين الفوضى والنظام، بين الخوف والطمأنينة، وبين الليل والنهار.
وشكراً لهذه المدينة… التي تعرف كيف تحتضن رجالها حين يعملون بصمت، ويفتحون للناس طرقاً مستقيمة وقلوباً مطمئنة.










