قبولٌ اضطراري لا خيار سياسي — لماذا وافقت فلسطين على ترتيبات لا تخدم قضيتها؟

بقلم :م.محمد علي العايدي

في الأيام الأخيرة، تتسارع التسريبات الأميركية والإسرائيلية حول “المرحلة الثانية” في غزة، والتي تشمل تشكيل هيكل حكومة جديدة، انسحاباً إسرائيلياً تدريجياً، وإجراءات أولية لنزع سلاح حماس، وصولاً إلى قوة دولية تُنشر في القطاع. ورغم ما يبدو على السطح من خطوات تهدف إلى “الاستقرار”، إلا أن حقيقة الأمر أكثر تعقيداً وخطورة على مستقبل القضية الفلسطينية.

فلسطين — قيادة وشعباً — لم تكن في يوم من الأيام صاحبة هذا المقترح، ولا شريكاً في صياغته. وما جرى قبولُه ليس خياراً سياسياً، بل قبولٌ اضطراري لوقف حرب الإبادة التي شنتها إسرائيل على غزة، ولإنقاذ المدنيين من نزيف الدم المستمر منذ شهور.

الحديث الأميركي عن “حكومة جديدة”، ونزع سلاح حماس، وقوة دولية في غزة، يأتي في إطار رؤية تُعيد هندسة الواقع الفلسطيني دون ضمانات حقيقية للسيادة أو وحدة الأرض الفلسطينية. فهذه الخطط:
• تُبقي السيطرة الأمنية بيد أطراف خارجية.
• تُقصي الفصائل الفلسطينية من المشهد دون عملية سياسية وطنية.
• تؤسس لواقع إداري جديد قد يفتح الباب أمام فصل غزة نهائياً عن الضفة الغربية.
• تتجاهل حق الفلسطينيين في مقاومة الاحتلال وفق القانون الدولي.

وبينما تسوق واشنطن وتل أبيب هذه الخطوات باعتبارها “مساراً للهدوء”، فإنها في حقيقتها تشكّل هندسة سياسية تُدار من فوق رأس الشعب الفلسطيني.

القبول الفلسطيني لم يأتِ من موقع الرضى، بل من موقع المسؤولية الإنسانية أمام واقع كارثي:
• حرب إبادة غير مسبوقة.
• مئات آلاف النازحين بلا مأوى.
• مجاعة تُهدد ثلث سكان القطاع.
• انهيار كامل للبنية الصحية والمدنية.

ولذلك، اضطرت القيادة الفلسطينية إلى التعاطي مع هذه الترتيبات لإنقاذ حياة المدنيين أولاً، على قاعدة أن وقف الحرب هو الأولوية، وأن النقاش السياسي يمكن خوضه لاحقاً من موقع أكثر قوة.

إنّ قبول هذه الخطة لا يعني تبنّيها، بل يعني نزع الذريعة من يد تل أبيب لاستمرار العدوان، وإظهار حسن النية أمام العالم، وإغلاق الباب أمام محاولات تصوير الفلسطينيين كرافضين للحلول.

السلطة الفلسطينية، وفي مقدمتها القيادة الرسمية، قدّمت تحفظات جوهرية على الخطة، وأبرزها:
1. رفض أي صيغة تُبقي إسرائيل اللاعب الأمني الأساسي في غزة، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر.
2. رفض فرض حكومة أو إدارة من الخارج دون توافق فلسطيني–فلسطيني.
3. رفض نزع السلاح في ظل استمرار الاحتلال، لأن ذلك يعني خضوعاً طويل الأمد.
4. التأكيد أن غزة جزء لا يتجزأ من الدولة الفلسطينية، وأي ترتيبات يجب أن تكون ضمن رؤية سياسية شاملة لإنهاء الاحتلال.

بهذه التحفظات، أوضحت القيادة الفلسطينية أن القبول “التكتيكي” لا يعني قبولاً استراتيجياً بالخطة، ولا اعترافاً بشرعية أي صيغة تنتقص من الحقوق  الوطنيه

رغم حديث المسؤولين الأميركيين عن انسحاب إسرائيلي ونزع سلاح حماس، إلا أنّ:
• إسرائيل تسعى لتحويل غزة إلى منطقة منزوعة القدرة على الدفاع.
• وترفض الاعتراف بالدولة الفلسطينية.
• وتستخدم “إعادة الإعمار” كورقة ابتزاز سياسي.

بل إن تصريحات نتنياهو نفسه، التي عبّر فيها عن شكوكه في إمكانية نزع السلاح، تُظهر أنه يتعامل مع الخطة كأداة لتعميق الانقسام الفلسطيني وإطالة أمد السيطرة.

يجب أن يكون واضحاً أن الفلسطينيين:
• قبلوا وقف الحرب، لا هندسة سياسية مفروضة.
• قبلوا حماية المدنيين، لا مصادرة حقهم في المقاومة.
• قبلوا تهدئة مؤقتة، لا أي حل ينتقص من الدولة الفلسطينية.

والشرعية الوطنية ستبقى في يد الشعب الفلسطيني وحده، الذي أثبت أنه قادر على إسقاط أي مشاريع لا تعبر عنه — كما أسقط سابقاً “روابط القرى” و”الإدارة المدنية”، وأسقط مشاريع التقسيم والتدويل وكل صيغ الانتقاص من حقه

إن قبول الفلسطينيين لهذه الترتيبات ليس نهاية الصراع، بل هو تكتيك إنساني لإنقاذ الأرواح، فيما تبقى المعركة السياسية قائمة لحماية الثوابت الوطنية وصون الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني.

فالحرب ستتوقف، لكن الحق لن يسقط، ولا يمكن لأي قوة دولية أو إقليمية أن تُعيد تشكيل مستقبل غزة دون موافقة شعبها، صاحب السلطة الوحيدة على أرضه وتاريخه وهويته.