ليس العقل زينة تُعلَّق على جدار الثقافة، ولا هو أداة محايدة تُستدعى في وقت الحاجة وتنصرف في أوقات الركود، بل هو ـ في جوهره الأبستمولوجي العميق ـ فضاء كونيّ أُنيطت به أقدس المهمات: إضاءة العالم، وفتح الطريق أمام الإنسان كي يغادر ظلمات الأسطورة إلى أنوار الفهم، ومنطق الضرورة إلى حرية الإمكان.
ومن هنا، غدت العقلانية ليست مجرد موقف معرفي، بل قدر حداثي لا خلاص للمجتمعات من دوائرهما المغلقة إلا بخوض مغامرتها.
لكنّ السؤال الذي يعترضنا عند تخوم هذا المسعى هو:
كيف يمكن لعقل تائه بين صدمة الماضي وارتباك الحاضر أن يجرؤ على عقلنة واقعٍ ذاته عصيّ على الإخضاع؟
وكيف يمكن لمجتمع ما يزال يترنّح بين يقين موروث ولايقين مُستحدث أن يؤسِّس لمرجعية عقلية مستقلّة تُقيم معاييرها من داخل الحاضر لا من ظلال البدايات؟
1. العقل في زمن الصدمات: خسارة البوصلة
لقد تلقّى الفكر العربي، خلال القرن الأخير، سلسلة من الصدمات التي لم يُتح له أحياناً حتى فرصة هضمها:
صدمة معرفية (إبستمولوجية) ناتجة عن انتقال العالم من أنماط التفكير التقليدي إلى علوم جديدة، ومنطق جديد، ورؤية كونية مغايرة لما ألفته الحضارات القديمة.
صدمة حضارية ارتبطت بظهور نماذج حداثية اقتلعت جذور المفاهيم القديمة اقتلاعاً؛ فلم يعد الزمن زمن القبيلة، ولا الحقيقة حقيقة السرد الديني وحده، ولا الإنسان ذلك الكائن الذي تُحدّد مكانته بالانتماء لا بالخبرة.
صدمة الهوية حين اكتشف الفكر أنه مُطالب بتقديم إجابات لا يملك أدواتها بعد، وأنَّ الماضي الذي اعتاد الاحتماء به لم يعد مصدر يقين، بل أصبح ـ في لحظات كثيرة ـ عبئاً معرفياً.
هذه الصدمات جعلت العقل يقف أمام الواقع كمن يقف أمام مرآة مهشَّمة: يرى أجزاء من صورته، ويغيب عنه باقيها.
2. أزمة العقلنة: حين يغيب المشروع وتبقى الشظايا.
إنَّ عقلنة الواقع ليست عملية تجميل للنظام القائم، ولا هي محاولة لإخضاع الوقائع بمنطق قسري، بل هي ـ كما يراها كبار الفلاسفة من كانط إلى هابرماس ـ سيرورة نقدية تبدأ من الاعتراف بأنَّ العالم ليس معطى نهائياً، وأن فهمه ليس حكراً على موروث أو مؤسسة.
لكنّ الفكر العربي، كما هو الآن، يعاني ثلاث أزمات:
1. غياب الصيرورة المركزية التي تُوحّد الرؤية وتوجهها نحو مشروع مجتمعي واضح؛ فلا توجد بنية فكرية تُشبه “العقل الجماعي” الذي نظّر له هابرماس، بل هناك جزر متناثرة للوعي.
2. هيمنة المرجعية الماضوية التي تُقفل باب التجريب، فتفقد العقل قدرته على المجازفة وعلى إعادة بناء مفاهيمه وفق شروط الواقع.
3. استقالة الفلسفة أو انحسارها، بحيث لم تعد قادرة على أن تكون منصّة لتأسيس المفاهيم أو توجيه الممارسة السياسية والاجتماعية.
وبسبب ذلك، أصبح الفكر يكتفي بتفسير اللامعقول دون أن يتمكّن من ترويضه، ويكتفي بفضح الأسطورة دون أن يقوى على اقتراح بديل عقلاني راسخ.
3. نحو إعادة تأسيس المعقولية: تحرير العقل من وصاية الأسلاف
ليست المعقولية أن نُضيف بعض “الرتوش العقلية” على واقع تقليدي، بل أن نمتلك الجرأة على:
استبدال المرجعيات الخاملة بمرجعيات نقدية حيّة قادرة على مساءلة كل شيء.
تحويل العقل من شاهد على التاريخ إلى فاعل في صنعه.
الخروج من أسر الميتافيزيقا السكونية إلى رحابة الفكر العلمي، دون إلغاء الروح، وإنما بإعادة تموضعها داخل أفق إنساني أرحب.
تحرير المخيال الجمعي من سلطة الخرافة، وإعادة ربطه بمفهوم التجربة، وهو جوهر الحداثة.
إنَّ العقلانية ليست نقيض الإيمان، ولا خصماً للثقافة، لكنها نقيض الجهل وخصمٌ مباشر للكسل الذهني.
وبهذا المعنى، هي شرط الوجود الحديث.
4. العقل بين الحداثة والتحديث: السيرورة المتدحرجة
إننا نخلط كثيراً بين الحداثة والتحديث، بينما هما في الحقيقة مستويان مختلفان:
الحداثة: حالة ذهنية تجعل العقل مركزاً للمعرفة.
التحديث: إجراءات اجتماعية وتقنية وتنظيمية.
وما بينهما — كما قلتَ في نصك — سيرورة متدحرجة؛ سيرورة لا تكتمل لأنها في أصلها بحث لا ينتهي.
فالعقلانية ليست محطة نتوقف عندها، بل هي مسار يتقدم ويتراجع، ينهض ويسقط، لكنها ـ مهما تعثرت ـ تبقى الطريق الوحيد لمصالحة الذات مع عصرها.
5. الدور الفلسفي: إعادة بناء السؤال قبل الجواب
لا يمكن لعقلنة الواقع أن تبدأ من الإجابات، بل من استعادة السؤال.
فالسؤال هو الفعل الذي يعيد للإنسان حريته، ويكسر سطوة الماضي، ويحرر المعنى من الجمود.
وبذلك يصبح دور الفلسفة هو:
إعادة النظر في مفاهيم: العقل، الحرية، الحقيقة، السلطة، المقدس.
تفكيك البنى الذهنية التي تعيق التفكير العلمي.
تحرير العلاقة بين الإنسان وواقعه من وصاية الأسطورة والسرديات المغلقة.
ومن دون هذا العمل الجراحي العميق لن تقوم للعقلانية قائمة.
6. خلاصة: العقل بوصفه الشجاعة الكبرى
عقلنة الواقع ليست ترفاً، ولا مشروعاً نخبوياً، بل هي ضرورة وجودية.
فالعالم العربي لن يخرج من أزماته بمجرد تغيير أنظمة أو إعادة تدوير شعارات، بل بامتلاك شجاعة مواجهة الذات:
شجاعة تفكيك ما تعلّق بالوعي من رواسب، وشجاعة قول الحقيقة للواقع، وشجاعة الحلم بعالمٍ مختلف.
إن العقل هو مفتاح الحداثة،
والمعقولية سبيل التحديث،
وبينهما تمتدّ سيرورة تتدحرج مثل نهرٍ يبحث عن مجراه،
لا تتوقف، ولا تستكين، ولا تعترف بقداسة الجمود.
وحين يتحرر العقل من وصاياه القديمة، ويستعيد حقه في التجريب، يصبح قادراً على ابتكار واقع جديد، لا على عقلنة واقع متصدّع فحسب.








