د. صلاح عبد العاطي
مقدمة: غزة… الجرح الذي كشف العالم
تحوّلت غزة خلال العامين الماضيين إلى المرآة الأكثر صدقًا لإخفاق النظام الدولي وانهيار القيم الإنسانية. لم تعد مجرد ساحة حرب، بل أصبحت نموذجًا حيًا للإبادة الجماعية التي تُمارس بوسائل متعددة: القتل بأنواع الأسلحة المختلفة، التجويع، التدمير الشامل للبنية التحتية، الحصار، تفكيك النظام الاقتصادي، والقضم التدريجي للمجتمع المدني، إلى جانب هندسة الفوضى والفلتان الأمني.
ورغم أن أركان الجريمة واضحة وضوح الشمس، فإن الاستجابة الدولية ما زالت أقرب إلى “إدارة أزمة” منها إلى “إيقاف جريمة” ومساندة ضحايا الإبادة الجماعية. وفي هذا الفراغ، تتمدد إسرائيل لتفرض وقائع جديدة: تفريغ ديموغرافي، إعادة رسم الجغرافيا، وتطويع السياسة.
وتقدم هذه الورقة إطارًا شاملًا يجمع بين:
التحليل السياسي والحقوقي.
قراءة للمشهد الفلسطيني الداخلي.
الفعل الفلسطيني، العربي والدولي الممكن في ظل التحولات الدولية والإقليمية وسيناريوهات المستقبل.
رؤية عمل فلسطينية–عربية–دولية متكاملة.
أولاً: غزة بعد الحرب… ملامح الإبادة البطيئة وتحويل القطاع إلى “منطقة غير قابلة للحياة”
الإبادة بأدوات غير صاخبة: الجوع، الحصار، والموت البطيء
غزة اليوم ليست منطقة منكوبة فقط… بل منطقة تُنزع عنها الحياة عمدًا، حيث:
قتل وفقدان واستشهاد قرابة 85 ألف فلسطيني، وإصابة 172 ألف جريح.
اعتقال قرابة 16 ألف فلسطيني، بقي منهم حوالي 3500 أسير في سجون الاحتلال.
تدمير 90% من القطاعات الاقتصادية والزراعية والخدمية.
انكماش اقتصادي بنسبة 87%.
بطالة تتجاوز 80%.
انعدام أمن غذائي يصل إلى 96%.
أكثر من 70 مليار دولار كلفة إعادة الإعمار.
توقف شبه كامل للإنتاج والتجارة والخدمات.
هذه مؤشرات ليست “نتائج حرب”، بل أدوات منهجية لخلق بيئة تدفع السكان دفعًا نحو الرحيل.
التهجير الهادئ: تفريغ ديموغرافي بلا إعلان
فالإبادة هدف ووسيلة لإعادة تشكيل غزة ديموغرافيًا وتهجير قسري لسكانها. كما قالت فرانسيسكا ألبانيزي: ما يجري في غزة خطة تطهير عرقي مدعومة سياسيًا وعسكريًا.
الفكرة بسيطة وخطيرة: إسرائيل لا تريد إدارة غزة… بل تريد غزة بلا سكان.
3. المعابر والمساعدات: حصار وخنق وليس أزمة لوجستية
مثال واحد يكفي لفهم العقلية: 1100 خيمة بريطانية تحتاج عامًا كاملًا للدخول.
هذه ليست صدفة ولا عجزًا؛ بل سياسة لقتل القدرة على الحياة… خطوة خطوة، مع استهداف متعمّد لمقدرات القطاع الأساسية.
ثانياً: الداخل الفلسطيني… شرعية مهزوزة وانقسام يعمّق الفراغ السياسي
1. أزمة شرعية وقيادة
فالوضع الداخلي هو الأخطر منذ النكبة:
سلطة بلا شرعية شعبية.
فصائل تعمل وفق معادلات متناقضة.
غياب رؤية واضحة لإدارة غزة بعد الحرب.
تدخلات إقليمية ودولية في القرار الوطني.
فراغ سياسي يسمح للآخرين برسم المستقبل وإعادة تشكيل النظام الداخلي.
2. القرار 2803: فرصة منقوصة أم وصاية مقنّعة؟
يحمل القرار جوانب إيجابية (حماية المدنيين، إدارة محلية)، لكنه أيضًا:
يفتح الباب لـ”قوس أمني” إسرائيلي.
يسمح بوصاية دولية طويلة المدى.
يغيّب دور الفلسطينيين في صياغة مستقبلهم.
يخلق نموذج “غزة المراقَبة دوليًا” بلا سيادة.
ورغم أن القرار ينص على تثبيت وقف إطلاق النار، الانسحاب الإسرائيلي، إعادة الإعمار، وبناء هياكل الحكم المؤقت، مع حديث عن مسار لإصلاح السلطة ومسار غامض نحو الدولة الفلسطينية، فإن الاصطفاف الفلسطيني حول القرار يعكس الانقسام العميق بين القبول الكامل والترحيب والرفض، فيما يؤكد الشارع على أولوية منع عودة حرب الإبادة وضمان تعزيز الاستجابة الإنسانية والتعافي.
ثالثاً: المشهد الدولي… غضب شعوب بلا أدوات وضغط حكومي هش
1. أوروبا: شعوب تصرخ… وحكومات تهمس
رغم المظاهرات الأوروبية الأكبر تاريخيًا دعمًا لفلسطين، إلا أن الحكومات:
لم توقف اتفاقيات الشراكة.
لم تفرض عقوبات.
لم تحظر تصدير السلاح.
لم تدفع نحو حماية ملزمة.
حتى حين صرّحت بريطانيا، إسبانيا، ألمانيا، فرنسا، إيطاليا وأيرلندا بأن الوضع “كارثي ولا يحتمل”، بقي ذلك ضمن سياسة الأصوات المرتفعة والأفعال الضعيفة.
2. الأمم المتحدة: اعتراف بفشل النظام الدولي
التقارير الأممية تصف الوضع بأنه:
انهيار للنظام الدولي.
ارتكاب إسرائيل لجريمة إبادة جماعية وبدعم أمريكي وبعض الدول الغربية والشركات المتورطة.
فشل آليات الحماية.
فراغ قانوني تستفيد منه إسرائيل.
لكن الاعتراف لم يتحول إلى إجراءات ملموسة، ويترك المجال للإفلات من العقاب.
3. الولايات المتحدة: الشريك المركزي في استمرار الجريمة
واشنطن تقدّم لإسرائيل:
مظلة سياسية.
أسلحة بلا قيود.
تعطيل محاسبة دولية.
شرعنة لرواية “الحرب الدفاعية”.
شراكة في ترتيبات ما بعد الحرب وفق الرؤية الإسرائيلية–الأمريكية.
النتيجة: إسرائيل لا تشعر بأنها تخوض حربًا… بل تُنفّذ مشروعًا، والضغط يتركز على الفلسطينيين لقبول شروط الاحتلال.
رابعاً: الدور العربي… بين قوة الموقف وحدود الفعل
1. مصر: الموقف الأكثر صلابة ضد التهجير والوصاية ومواقفها واضحة:
رفض التهجير.
رفض الوصاية الدولية.
رفض فصل غزة عن الضفة.
الإصرار على فتح المعابر وفق المسؤولية القانونية للاحتلال.
دعم مسار إعادة الإعمار وخطط الدولة الفلسطينية المستقبلية.
2. الدول العربية الأخرى… غياب الرؤية الشاملة
رغم المواقف الرسمية الداعمة للحقوق الفلسطينية، لا توجد مبادرة عربية موحدة، حيث:
جهود الإغاثة مجزأة.
رغم وجود خطة عربية لإعادة الإعمار، إلا أن إجراءات البدء فيها معطلة.
تراجع الضغط الدبلوماسي.
العالم العربي يتصرف كمتلقٍ للأزمة… لا كصانع لمسارها، رغم أن المواقف الرسمية تدين الجرائم وتطالب بفتح المعابر ومسار واضح نحو الدولة الفلسطينية قبل التطبيع، لكنها تقتصر على المطالبات دون استخدام فعلي لأوراق القوة العربية.
خامساً: إعادة الإعمار والتعافي — ملف صراع سياسي بقدر ما هو إنساني
1. التحديات
تدمير أكثر من 85% من المباني.
خسائر تفوق 70 مليار دولار.
60 مليون طن من الركام.
35 الف صاروخ و قذيفة غير متفجرة
اقتصاد مُفرغ بالكامل.
انهيار المياه والصرف والكهرباء والاتصالات.
انهيار الخدمات الصحية والتعليمية.
اغلاق المعابر وبقاء الحصار.
عرقلة إسرائيلية متعمدة للاستجابة الإنسانية والتعافي وغياب الضغظ الدولي الجاد
عدم اتفاق علي رؤية لقوة الاستقرار ودور الأطراف المختلفة وهياكل الحكم .
2. الرؤية الفلسطينية–العربية المطلوبة
أولًا: إنشاء صندوق عربي–إسلامي لإعادة الإعمار بقيادة مصر وقطر والسعودية والإمارات والجزائر والكويت.
ثانيًا: اعتماد نموذج “إعادة إعمار متمركز حول الإنسان”، يشمل:
العودة الآمنة للنازحين.
بناء مساكن مؤقتة لائقة.
إعادة تأهيل الخدمات الأساسية (مياه، كهرباء، اتصالات، صرف صحي، قطاع صحي وتعليمي).
دعم الصحة النفسية.
تعويضات عاجلة للأسر المتضررة.
ثالثًا: خطة تعافٍ اقتصادي 5–10 سنوات، تشمل:
دخل أساسي طارئ لكل فرد لمدة 24 شهرًا.
إعادة تشغيل القطاعات الإنتاجية الصغيرة.
مشاريع كثيفة لتشغيل العمال.
إعادة دمج الشباب في التعليم والتدريب.
إعادة بناء كافة القطاعات الخدمية والاقتصادية.
رابعًا: ضمانات دولية بعدم تكرار التدمير، تشمل خطوات سياسية، أمنية، وقانونية لمنع إسرائيل من تدمير كل شيء مجددًا، وضمان إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس.
سادساً: العدالة والمساءلة… لا سلام بلا عدالة
تشمل الاستراتيجية:
دعم قضايا الإبادة في محكمة العدل الدولية.
تحويل ملفات جديدة للجنائية الدولية.
فرض عقوبات على المسؤولين الإسرائيليين.
إنصاف وتعويض ضحايا الإبادة الجماعية.
ملاحقة الشركات والدول المتورطة في جرائم الحرب.
بناء تحالف قانوني عالمي لتفعيل المقاطعة وفرض العقوبات.
فالعدالة ليست مدخلًا رمزيًا… بل جزء من حماية الفلسطينيين ومنع تكرار الجريمة وضمان حقوقهم، وخاصة حقهم في تقرير المصير.
سابعاً: السيناريوهات المستقبلية لغزة
1. الوصاية الدولية (الأكثر احتمالًا دون توافق فلسطيني) قوة دولية + إدارة مدنية + إشراف أمني إسرائيلي.
2. الإدارة الفلسطينية الموحدة (السيناريو الأمثل) ويتطلب:
حكومة وطنية او لجنة اسناد انتقالية.
إعادة بناء منظمة التحرير على أسس ديمقراطية.
خطة وطنية موحدة.
قيادة وطنية موحدة وإدارة مشتركة.
انتخابات انتقالية.
3. “القوس الأمني” الإسرائيلي (السيناريو الأخطر)
غزة كمحمية أمنية خاضعة لإسرائيل… بلا سيادة.
4. سيناريو التدهور طويل الأمد
غزة غير قابلة للعيش لعقود وتهجير قسري لسكانها.
خاتمة: غزة هزمت الرواية ولم تهزمها الجريمة
غزة اليوم ليست مجرد ضحية. إنها:
معيار أخلاقي للنظام الدولي.
امتحان لمصداقية حقوق الإنسان.
معركة مع الاستعمار الاستيطاني.
رواية صمود تصنعها أجساد منهكة وإرادات لا تنكسر.
الفلسطينيون لا يطلبون من العالم معجزات… يطلبون فقط أن يتوقف عن توفير الغطاء لمن يقتلهم، والقيام بالواجبات الأخلاقية والقانونية وفقًا لقرارات محكمة العدل الدولية وقواعد القانون الدولي الإنساني واتفاقيات حقوق الإنسان وقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة.
وغزة — رغم الجوع والدمار — ما زالت تقول للعالم: لن تموت بصمت… ولن نترك أحدًا يكتب مستقبلها بدلًا من أبنائها.







