في لحظة تُعد الأشد قسوة وتعقيدا في تاريخ حركة حماس، تحل الذكرى الثامنة والثلاثون لانطلاقتها محملة بالفقد، وممزقة بانقسامات حادة بين قيادات الداخل والخارج، وبين القاعدة التنظيمية التي تلقت الضربة الأثقل بعد أن قضت إسرائيل على معظم القيادة السياسية والعسكرية للحركة.
ذكرى تأتي مثقلة بالأسئلة الوجودية، وبعيدة كليا عن مشاهد الحشد والقوة التي اعتادت الحركة تصديرها لعقود، فبالنسبة للمواطن الغزي، لم تعد هذه المناسبة محطة لشعارات التحرير أو القدس أو عودة اللاجئين، بل انعكاسا لواقع بالغ القسوة، عنوانه خيمة تقي برد الشتاء، ولقمة تسد جوع الأطفال، وبحث يومي عن الأمان في حياة فقدت أبسط مقوماتها.
منذ بداياتها، شكلت حماس مسارا صداميا مع الواقع الفلسطيني، بدءا من تفجير العمليات ومحاولة نسف اتفاق أوسلو، مرورا بالانقلاب العسكري على السلطة الفلسطينية عام 2007، وما تبعه من فرض حكم أحادي في غزة، وضرائب باهظة، وتضييق على الحريات العامة، وليس انتهاء بالحروب المتتالية، خمس حروب مدمرة كان آخرها حرب الإبادة، لتضع غزة على حافة الانهيار الشامل، إنسانيا واقتصاديا واجتماعيا.
ففي ذكرى الانطلاقة، لم تعد الخلافات داخل حماس مجرد تباينات في الرأي، بل أصبحت صراع نفوذ وتيارات داخلية وخارجية، فهناك تيار “الصقور” أو جماعة جباليا الذي يُصر على الاستمرار في المسار ذاته مهما كان الثمن، وتيار آخر “البراغماتيين” في الخارج يواجه واقعا قاسيا يدرك أن الحركة استُنزفت عسكريا، وضُربت تنظيميا، وخسرت خسائر كبيرة جدا من الحاضنة الشعبية وواقعها السياسي.
انعكست هذه الانقسامات على خطاب الحركة المتناقض في الفترة الأخيرة، وغياب رؤية واضحة لليوم التالي، سواء في غزة أو على مستوى مستقبل التنظيم نفسه، فبعد سنوات من الحكم والحروب، لم تعد حماس تمتلك سوى خطاب الصمود، في وقت تكشف فيه الوقائع تراجع قدرتها العسكرية، وتضرر بنيتها التنظيمية، وفقدانها القدرة على إقناع الناس وحتى كوادرها بصلاحية خيار المقاومة في تحرير فلسطين بعد هذا الكم من الدمار والخسائر، إلى أن وصل الى موافقتها على خطة ترامب التي تشمل تسليم السلاح..كيف تقنعهم؟ الأمر لن يكون سهلا، بل كان انتحارا وجوديا.
وفي ظل عدم تحقيق حماس أي مكاسب سياسية حقيقية تقدمها للفلسطينيين، ولم يعد هناك أي تغيير في موازين القوى بعد الحرب على القطاع، بل بالعكس انهكت القدرة العسكرية لحماس، أصبحت مدينة غزة وشمالها وجنوبها مدن مدمرة بالكامل، ومجتمع منهك ويموت في اليوم 100 مرة، بعد اقتصاد ميت أصلا، وعشرات الآلاف من الشهداء والجرحى والمفقودين، لتكون مرآة لفشل إدارة قادة حماس للصراع والحرب.
أما عند الحديث بنظرة أعمق إلى الخطر الأكبر من الدمار الهائل والخسائر البشرية، هو أزمة الشرعية التي تعانيها الحركة، شرعية القرار، وشرعية تمثيل أكثر من مليوني فلسطيني، والاستمرار في احتكار مصيرهم دون تفويض حقيقي، فحين تتسع الفجوة بين الخطاب والواقع، وبين حجم التضحيات وغياب النتائج، تبدأ الحركات بالانهيار من الداخل.
ففي ذكرى انطلاقتها، تقف حماس أمام مفترق تاريخي حاسم، إما مراجعة جادة تعترف بالفشل، وتفتح الباب لشراكة وطنية ومسار مختلف، أو الإصرار على المكابرة، وهو خيار لا يؤدي إلا إلى تعميق الانقسام وتسريع التفكك، ودفع غزة نحو جولات دمار جديدة، فالتاريخ لا يرحم التنظيمات التي ترفض الاعتراف بأخطائها، ولا الشعوب قادرة على دفع الثمن إلى ما لا نهاية.







