ليست اللغة العربية مجرد أداة تواصل، بل هي كينونة حضارية مكتملة، وذاكرة أمة، ووعاء معنى، ولسان فكرٍ وجمال. إنها اللغة السامية الحيّة الوحيدة التي قاومت الفناء، وبقيت نابضة بالبيان والبلاغة، متوهجة بالفصاحة، قادرة على احتواء أدقّ المعاني وأعمق التجارب الإنسانية، بما تمتلكه من ثراء معجمي، ومرونة تركيبية، وطاقة دلالية قلّ نظيرها.
العربية لغةٌ إذا نُطِقَتْ أشرقت، وإذا كُتِبَتْ أبهرت، وإذا قُرِئَتْ أنصت لها القلب قبل الأذن. كأنها كائن حيّ له عينان ولسان وشفاه؛ ترى فيها الجلال والجمال معًا، وتلمس في نبراتها وقار الحكمة ودفء العاطفة. فهي لغة العقل حين يفكر، ولغة الروح حين تتوق، ولغة الشعر حين يحلّق، ولغة العلم حين يدقّق.
وقد بلغ شرف العربية ذروته حين اصطفاها الله تعالى لغةً لكتابه الخالد، فقال:
﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾،
فغدت لغة الوحي، ولسان الهداية، ووعاء الإبانة، لا تُتلى آيات القرآن إلا بها، ولا تُؤدّى الصلاة إلا من خلالها، فكان في ذلك سرّ خلودها وبقائها، وحفظها بحفظ النصّ المقدّس إلى قيام الساعة.
وليس اختيار العربية للقرآن اختيارًا عابرًا، بل دلالة على قدرتها الفريدة على حمل المعاني الكبرى، واستيعاب القيم الكونية، والتعبير عن أدقّ مقاصد العقل والروح. لذلك قال ابن كثير: «لأن لغة العرب أفصح اللغات، وأبينها وأوسعها، وأكثرها تأدية للمعاني التي تقوم بالنفوس». وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «تعلّموا العربية فإنها تثبّت العقل وتزيد في المروءة».
لقد كانت العربية، عبر قرون طويلة، لغة العلم والفلسفة والسياسة والأدب، وأسهمت إسهامًا حاسمًا في نقل المعارف إلى أوروبا، وفي تأسيس حوار حضاري بين الثقافات. وتأثرت بها لغات كثيرة، واستعارت منها ألفاظًا ومفاهيم، لما امتلكته من قدرة على الاشتقاق، والتوليد، والتجريد.
وفي العصر الحديث، اعترفت الأمم المتحدة بالعربية لغةً رسمية عام 1973، ثم خصّصت منظمة اليونسكو الثامن عشر من كانون الأول/ديسمبر يومًا عالميًا للاحتفاء بها، وهي اليوم لغة ما يقارب 490 مليون إنسان، ولغة عبادة لأكثر من مليار مسلم، وإحدى أقدم لغات العالم وأكثرها ثراءً من حيث المفردات والتراكيب.
لكن الاحتفاء الحقيقي بالعربية لا يكون بالشعارات، بل بإعادة الاعتبار إليها في التعليم، والفكر، والإعلام، وبالتبحّر في نحوها وبلاغتها، لأنها ليست ترفًا ثقافيًا، بل شرطًا لسلامة العقل، ووضوح التفكير، وعمق الرؤية. فاللغة، كما قال ابن تيمية، تؤثّر في العقل والخلق والدين تأثيرًا بالغًا، واعتيادها تهذيب للنفس، وارتقاء بالذوق، وضبط للمعنى.
إن العربية ليست لغة الماضي فقط، بل لغة الحاضر والمستقبل، قادرة على استيعاب العلوم الحديثة، ومواكبة التحولات المعرفية، متى أُحسن التعامل معها، ومتى تحرّرت من التهميش وسوء الفهم. وهي، قبل كل شيء، ركن أساسي من أركان الهوية العربية والإسلامية، وجسر يوحّد الذاكرة من المحيط إلى الخليج.
في اليوم العالمي للغة العربية، لا نحتفل بلغةٍ فحسب، بل نحتفي بأنفسنا، بتاريخنا، وبقدرتنا على إنتاج المعنى. وستبقى العربية، لغة الضاد، سيدة اللغات، خالدة ما بقي القرآن، وما بقي في هذه الأمة من يؤمن بأن اللغة ليست كلامًا فقط، بل مصيرًا وهوية وكرامة.





