اللغة العربية: هويةٌ وذاكرةٌ نابضة ، بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية:

بقلم: عماد خالد رحمة _ برلين.

 

ليست اللغة العربية مجرد أداة للتواصل، ولا وعاءً محايداً للأفكار، بل هي كينونة حضارية حيّة، تختزن الذاكرة، وتشكّل الوعي، وتمنح الإنسان اسمه في التاريخ. وفي الثامن عشر من ديسمبر من كل عام، يقف العالم عند اللغة العربية احتفاءً بها، لا بوصفها لغة قومٍ بعينهم، بل باعتبارها إحدى اللغات الكبرى التي أسهمت في صياغة الفكر الإنساني، وحملت المعرفة، ورافقت الإنسان في أكثر لحظاته تعقيدًا وسموًّا.

مفهوم اللغة ودورها
اللغة، اصطلاحًا، نسقٌ من الرموز والإشارات الصوتية التي يستخدمها الإنسان للتواصل، والتعبير عن مشاعره، وبناء معرفته، وتنظيم علاقاته داخل المجتمع. وهي، بهذا المعنى، ليست مجرد ألفاظ تُقال، بل نظام دقيق تحكمه قواعد في التراكيب، والأصوات، والدلالات، بما يتيح للإنسان أن يفكّر بقدر ما يتكلّم، وأن يعي ذاته بقدر ما يعبّر عنها. ولكل مجتمع لغته التي تعكس رؤيته للعالم، وتكشف عن بنيته الثقافية والحضارية.

اليوم العالمي للغة العربية
يحتفل العالم في 18 ديسمبر باليوم العالمي للغة العربية، وهو اليوم الذي اعتمدت فيه الجمعية العامة للأمم المتحدة اللغة العربية لغةً رسمية من لغاتها الست المعتمدة. وبهذا الاعتراف، صارت العربية حاضرة في كل ما يصدر عن المنظمة الدولية من قرارات ووثائق ومداولات، مترجمة ترجمة فورية، تتيح لمئات الملايين من الناطقين بها الاطلاع والمشاركة. وانضمّت العربية بذلك إلى الإنجليزية والفرنسية والصينية والروسية والإسبانية، مؤكدة مكانتها العالمية ودورها في التواصل الإنساني.

انتشار العربية ومكانتها الروحية
يتحدث بالعربية اليوم أكثر من نصف مليار إنسان، وتمتد رقعتها الجغرافية من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، فضلًا عن كونها لغة القرآن الكريم، ولسان العبادة لدى المسلمين في شتى بقاع الأرض. وهذه الخصوصية الروحية لم تجعلها لغة طقسية جامدة، بل منحتها طاقة استمرارية وحيوية، حافظت بها على وحدتها، في وقت تفتّتت فيه لغات كثيرة، وتحولت لهجاتها إلى لغات مستقلة، وانقطعت صلتها بماضيها.

العربية لغة شاعرة
يصف الأديب عباس محمود العقاد العربية بأنها «اللغة الشاعرة»، وهو لا يعني كثرة الشعر فيها، بل طبيعتها الجمالية القائمة على الإيقاع، وتناسق الأصوات، ودقة المخارج. فهي لغة بُنيت على موسيقى داخلية تجعل الكلام فيها، في جوهره، فنًا، حتى وإن لم يكن شعرًا. ويرى العقاد أن مفاخرة الأمم بلغاتها كثيرًا ما تقوم على دعاوى عاطفية أو قومية، غير أن الفصاحة العربية تستند إلى دليل علمي واضح: وضوح مخارج الحروف، وعدم التباس الأصوات، وغنى النظام الصوتي الذي يمنح المتكلم قدرة عالية على التعبير الدقيق.

اعتزاز العرب بلغتهم
ويؤكد الشاعر واللغوي فاروق شوشة، في كتابه لغتنا الجميلة، أن العرب قديمًا كانوا شديدي الاعتزاز بلغتهم، يحرصون على جودة النطق، وحسن الإلقاء، ودقة التعبير، وينفرون من العيوب اللفظية وفضول الكلام. وكانوا يعدّون البلاغة وحسن البيان نصف شخصية الإنسان، لما للغة من دور في إبراز الفكر وصقل الحضور الإنساني.

الاستمرارية التاريخية للعربية

لقد تطورت اللغة العربية عبر العصور تطورًا عميقًا، غير أن هذا التطور لم يقطع صلتها بجذورها الأولى. فما زلنا، إلى يومنا هذا، قادرين على قراءة النصوص الجاهلية والإسلامية وفهمها، مع شيء من الدراية بالأساليب والمجازات. وما زالت تشبيهات وكنايات قديمة حيّة في خطابنا اليومي، وهو أمر نادر في تاريخ اللغات. وكان للقرآن الكريم، ثم للحديث النبوي الشريف، الأثر الأبلغ في حفظ العربية، وصونها من التشتت والاندثار.

مسؤولية الحماية والتجديد
لا غنى للغة العربية عن أبنائها، ولا غنى للعرب عنها. ومن هنا، فإن الدفاع عنها ليس ترفًا ثقافيًا ولا خطابًا عاطفيًا، بل ضرورة وجودية. فاللغة تتعرض اليوم لحملات تشكيك، داخلية وخارجية، تطعن في قدرتها على مواكبة العصر وعلومه، وتدعو إلى استبدالها بلغات أجنبية بدعوى السهولة والحداثة. غير أن التبصر الهادئ يبيّن أن الخلل ليس في اللغة، بل في أهلها حين يقصّرون في استخدامها وتطويرها.

إن إصلاح التعليم خطوة أساسية، لكنه ليس كافيًا وحده؛ فالمسؤولية جماعية، تشمل الإعلام، والمؤسسات الثقافية، والبيت، والشارع. كما أن ظواهر مثل كتابة العربية بحروف أجنبية (العربيزي) ليست مجرد لعب لغوي، بل مؤشر خطر على الوعي اللغوي، واستهانة بقدرة اللغة على استيعاب العصر. ويظلّ الاهتمام بترجمة العلوم ترجمة رصينة، تقوم بها مؤسسات متخصصة، من أهم مفاتيح تمكين العربية علميًا ومعرفيًا.

خاتمة
إن أخطر تحديات القرن الحادي والعشرين لا تكمن في التقنية وحدها، بل في النفسية العربية التي بدأت تفقد إحساسها بقيمة لغتها. فكيف للغة أن تزدهر وأهلها يحاصرونها بالإهمال؟ إن العربية هويتنا الدينية والقومية معًا، ولا قيام لإحداهما دون الأخرى. وحين نحفظ اللغة، فإننا لا نحفظ ألفاظًا وقواعد، بل نحفظ ذاكرتنا، ونصون مستقبلنا.

وقال الشاعر:

يُسافرُ الحرفُ في أسماعِنا نَغَمًا
ويستثيرُ صداهُ الرائعُ الهِمَمَا
اللهُ، يا لُغةَ الضّادِ التي امتلأتْ
أرواحَنا، وسمَتْ في ذاتِنا حِكَمَا

يَكفيكِ أنّكِ ميثاقٌ يُوحِّدُنا
وأنّكِ البيتُ مرفوعًا ومُحتَكَمَا
وأنَّ منكِ كتابَ اللهِ، أحرفُهُ
وحيُ القداسةِ، يجلو نورُها الظُّلَمَا

إنّا المُحبّونَ، هذا الحبُّ في دمِنا
يحمي كيانَكِ، لا مَنًّا ولا كَرَمَا.