سياسةُ التغريب عن الواقع:

بقلم: عماد خالد رحمة _ برلين.

حين يُدار الوعي بالدخان لا بالضوء
ليس التغريب عن الواقع حادثًا عرضيًا ولا انزلاقًا بريئًا في مجرى التاريخ، بل هو سياسةٌ واعية، لها هندستها الرمزية وأدواتها السردية، تُمارَس حين تُستشعر خطورة انكشاف الحقيقة، وحين يغدو الوعيُ الشعبيُّ تهديدًا لمصالحٍ تتغذّى على العتمة. فمن يقرأ التاريخ بعينٍ ناقدة، لا بعينٍ مأخوذة بسحر الحكاية، يدرك أن الأساطير لا تولد دائمًا من رحم الخيال، بل كثيرًا ما تُفصَّل على مقاس اللحظة الحرجة، لتكون ستارًا كثيفًا يحجب ما يجري في العمق.
ليست الحكايات الشعبية عن عنترة – في كثير من أطوار تدوينها وتضخيمها – إلا مثالًا دالًا على هذا الاشتغال المزدوج: بطولة تُضخّ، ومآثر تُبالَغ، كي يُستبدل سؤال الواقع بسحر السرد، ويُعَوَّض القهرُ الاجتماعي بمخدّرٍ رمزيٍّ يُشبع المخيلة ويُفرغ العقل من فاعليته النقدية. فحين يُستغرق الناس في بطولات متخيَّلة، يقلّ انشغالهم ببطولاتٍ مؤجَّلة في الواقع.
وفي هذا السياق، تبدو أمثولةُ ما يرويه ميشيل غريب عن ليلة صَلْبِ الحلاج وحرق جسده ذات دلالة كاشفة: إذ شاعت بين الناس في تلك الليلة حكايةُ طائرٍ أسطوريٍّ يخطف الأطفال، ولا يُدفَع شرّه إلا بطرق الأواني النحاسية على أسطح البيوت. لم تكن الحكاية سوى ضجيجٍ مُصطنَع، أُطلِق ليغطي على جريمةٍ كبرى تُرتكب في وضح التاريخ. كان الصوت العالي وسيلةً لإسكات السؤال، وكانت الخرافة أداةً لإبعاد النظر عن الجسد المحترق في ساحة الحقيقة.
وما يحدث اليوم، على اختلاف الأدوات وتسارع الوسائط، لا يخرج عن المنطق ذاته. فالشاشات، بما تملكه من قدرة هائلة على إعادة ترتيب الأولويات، تمارس الدور نفسه بلباسٍ حداثي: افتعالُ قضايا جانبية، النفخُ فيها حتى تغدو قضايا الساعة، وإغراقُ الفضاء العام بدراما مُصنَّعة، تُشبع الانفعال وتستنزف الانتباه. أما القضايا المصيرية – الاقتصادية، والسياسية، والوجودية – فتُدفع عمدًا إلى الهامش، أو تُترك غارقةً تحت سطح الصخب، بلا رصدٍ ولا مساءلة.
هنا لا تعود المسألة مسألةَ ذوقٍ إعلامي أو صدفةٍ تحريرية، بل تدخل في نطاق التخطيط الواعي لتوجيه الإدراك الجمعي. فالمصادفة، بطبيعتها، لا تتكرر بهذا الانتظام المريب، ولا تُنتج الأثر نفسه في كل مرة. إننا إزاء سياسةٍ تُحسن إدارة الغبار، وتعرف متى تُشعل الدخان، كي لا يرى الناس ما يُدار باسمهم وضدهم في آن.
وليس تدنّي منسوب الوعي العام دليلًا حتميًا على الجهل أو تفشي الأمية، كما يُروَّج غالبًا؛ فكم من مجتمعاتٍ متعلّمةٍ تعيش اغترابًا حادًا عن واقعها. العلّة الأعمق تكمن في حجب الواقع مع سبق الإصرار، وفي صناعة ظلامٍ رمزيٍّ يُسوّي بين الأشياء، حتى “تصبح الأبقار كلّها سوداء عندما يعمّ الظلام”، على حدّ تعبير هيغل. في هذا الظلام، تفقد القيمُ تمايزها، وتُمحى الفروق بين الجوهري والهامشي، بين المصيري والعابر.
ولأن الضوء عدوٌّ تقليدي للصوص ولقطّاع الطرق، فهو أشدّ عداوةً لمن يبنون سلطتهم على إطالة أمد الليل. فالليل، حين يُدار سياسيًا، لا يكون غيابًا للنهار فحسب، بل تعطيلًا للتمييز، وتخديرًا للبصيرة، وإعادة تشكيلٍ للإنسان بوصفه كائنًا مستهلكًا للصور لا صانعًا للمعنى.
من هنا، فإن مقاومة سياسة التغريب عن الواقع لا تبدأ برفض الحكاية، بل بإعادة موضعتها: أن نستعيد السؤال خلف السرد، وأن نفتّش عن المصلحة المختبئة وراء الضجيج، وأن نُصرّ على إشعال ضوءٍ صغير في وجه ليلٍ يراد له أن يستطيل. فالتاريخ لا يُغيَّر حين نُتقن التصفيق للأسطورة، بل حين نمتلك شجاعة النظر إلى الواقع بلا أقنعة، وبلا أوانٍ نحاسية تُطرق كي لا نسمع صرخة الحقيقة.