في كل موسم ميلاد، تعود الدعاية الإسرائيلية لترويج سردية زائفة تزعم أن “المسلمين” أو “السلطة الفلسطينية” مسؤولون عن تراجع الوجود المسيحي في فلسطين.
وآخر هذه الادعاءات ما ورد في فيديو لمؤثر صهيوني يتابعه ملايين المسيحيين الإنجيليين حول العالم، زعم فيه أن المجتمع المسيحي في الأراضي المقدسة “تمت تصفيته”، وأن إضاءة شجرة الميلاد في بيت لحم محاولة لإخفاء الحقيقة.
غير أن الوقائع الموثقة، بالأرقام والتقارير الكنسية والحقوقية الدولية، تكشف حقيقة مغايرة تمامًا: الاحتلال الإسرائيلي هو العامل المركزي والمباشر في تهجير المسيحيين الفلسطينيين، كما هو حال سائر أبناء الشعب الفلسطيني، دون أي بعد ديني للصراع.
مصادرة الأرض: جوهر الاستهداف
منذ احتلال القدس والضفة الغربية عام 1967، انتهجت إسرائيل سياسة ممنهجة تقوم على مصادرة الأراضي، والتوسع الاستيطاني، وعزل المدن الفلسطينية. وكان للمجتمع المسيحي حضور واضح ضمن هذا الاستهداف، لا سيما في بيت لحم وبيت جالا وبيت ساحور.
فقد صادرت سلطات الاحتلال 3,147 دونمًا من أراضي بيت جالا، تعود ملكيتها بمعظمها لعائلات مسيحية، لتوسيع حدود بلدية القدس التابعة للاحتلال. وفي وادي كريمزان، أدى مسار الجدار الفاصل إلى عزل نحو 3,500 دونم من الأراضي الزراعية الخاصة لـ 58 مالكًا فلسطينيًا، غالبيتهم من المسيحيين، بما فيها كروم زيتون معمّرة تُعد آخر متنفس زراعي رئيسي للمنطقة.
وعلى مستوى محافظة بيت لحم، قدّرت تقارير معهد الأبحاث التطبيقية – القدس (ARIJ) خسارة 18,048 دونمًا بسبب الجدار والمستوطنات والطرق الالتفافية والمناطق العسكرية المغلقة، وهي إجراءات طالت بلدات ذات حضور مسيحي تاريخي.
كما كشفت تقارير حقوقية عام 2024 عن مخطط استيطاني جديد باسم “نحال حليتس” يستولي على 602 دونم إضافية من أراضي بيت جالا وبتير ضمن كتلة “غوش عتصيون”.
هذه الوقائع تؤكد أن ما يجري ليس صراعًا دينيًا، بل سياسة استعمارية ممنهجة تهدف إلى تفريغ الأرض من سكانها الأصليين.
الاختناق الاقتصادي والهجرة القسرية
تشير تقارير كنسية ومنظمات دولية، من بينها Open Doors، إلى أن الأسباب الرئيسة لهجرة المسيحيين الفلسطينيين تتمثل في الضائقة الاقتصادية، البطالة، انسداد الأفق السياسي، القيود المشددة على الحركة، وتدهور الأمن الشخصي.
وجميع هذه العوامل هي نتائج مباشرة لسياسات الاحتلال: الحواجز، الجدار، نظام التصاريح، وخنق الاقتصاد المحلي.
الهجرة هنا ليست خيارًا ثقافيًا أو دينيًا، بل هجرة قسرية بطيئة تفرضها ظروف معيشية غير قابلة للاستمرار.
الاعتداءات على المقدسات والمؤسسات المسيحية..
بعكس ما تروّجه الدعاية الإسرائيلية، تُظهر تقارير موثوقة، أبرزها تقارير Rossing Center، تصاعدًا خطيرًا في الاعتداءات التي ينفذها مستوطنون إسرائيليون ضد المسيحيين ومقدساتهم، في ظل صمت رسمي أو حماية غير مباشرة من سلطات الاحتلال.
ففي عام 2024 فقط، تم توثيق 111 اعتداءً ضد المسيحيين في القدس والضفة الغربية، منها 46 اعتداءً جسديًا، و35 اعتداءً على ممتلكات كنسية شملت كنائس وأديرة وصلبانًا ومقابر، إضافة إلى حالات تحرّش وتهديد.
هذه الاعتداءات تخلق مناخًا طاردًا يدفع بالمزيد من العائلات إلى مغادرة وطنها التاريخي.
ما قبل 1948: الجذور الأولى للتهجير …
لم تبدأ مأساة المسيحيين الفلسطينيين عام 1967 فقط. فمع نكبة عام 1948، هُجّرت عشرات المدن والقرى الفلسطينية ذات الأغلبية المسيحية أو المختلطة، مثل يافا وحيفا واللد والرملة، ما أدى إلى تفكيك مجتمعات مسيحية عريقة وانتقالها قسرًا إلى الضفة الغربية ثم إلى المنافي.
إسرائيل، التي تدّعي حماية “الأقليات”، كانت في الواقع السبب المباشر في تقليص الوجود المسيحي الأصيل في فلسطين التاريخية.
خلاصة القول:
تحميل المسلمين أو السلطة الفلسطينية مسؤولية هجرة المسيحيين ليس سوى كذبة سياسية مغلّفة بخطاب ديني، تهدف إلى تبرئة الاحتلال من جرائمه، وشق الصف الفلسطيني، وتضليل الرأي العام المسيحي العالمي.
الحقيقة واضحة:
الاحتلال الإسرائيلي، بسياساته الاستيطانية والاقتصادية والأمنية، هو المسؤول الأول عن تهجير المسيحيين الفلسطينيين، كما هو مسؤول عن معاناة الشعب الفلسطيني بأكمله.
إضاءة شجرة الميلاد في بيت لحم ليست تغطية على جريمة، بل فعل صمود ورسالة وجود تؤكد أن المسيحيين الفلسطينيين جزء أصيل من هذا الوطن، وأن الحقيقة لا يمكن طمسها مهما اشتدت الدعاية الصهيونية .






