حين يُطلَب الصفح من القاتل ويُتجاهَل الشعب… إلى أين تأخذنا حماس؟

بقلم: م. محمد علي العايدي

حين يخرج خالد مشعل مخاطبًا الولايات المتحدة بلغة الصفح وطلب “التعامل المنصف”، مستحضرًا نماذج التسوية والاحتواء، فإن المسألة لا تتعلق بزلة لسان أو مناورة تكتيكية، بل بانقلاب عميق في البوصلة السياسية والأخلاقية لحركة رفعت يومًا شعار المقاومة ورفض الاعتراف بأمريكا، ثم عادت اليوم تطلب ودّها، لا بوصفها راعيًا محايدًا، بل وهي الشريك الكامل في قتل الشعب الفلسطيني وتدمير غزة. بعد السابع من أكتوبر، وما تبعه من حرب إبادة مفتوحة، وسقوط عشرات آلاف الشهداء، ومسح أحياء كاملة، وتشريد شعب بأكمله، لم يسمع الفلسطينيون كلمة اعتذار واحدة من قيادة حماس لشعبها عن قرار الحرب، ولا عن الانفراد بالمصير، ولا عن غياب الحسابات، ولا عن تحويل غزة إلى ساحة انتقام مفتوحة، لكنهم سمعوا، وبوضوح، خطاب استرضاء موجَّه إلى واشنطن، وكأن الصفح يُطلَب من القاتل لا من الضحية، وكأن الشعب آخر من يُخاطَب وآخر من تُحسب كلفته.

الولايات المتحدة التي تُخاطَب اليوم بلغة التودد هي نفسها التي موّلت الحرب، وسلّحت إسرائيل، ومنحتها الغطاء السياسي والقانوني، وعطّلت وقف إطلاق النار، وباركت المجازر، ومع ذلك تتجه حماس إلى طلب الرضا الأمريكي بدل مواجهته سياسيًا أو محاسبته، بينما ترفض أي تقارب جدي مع السلطة الفلسطينية أو منظمة التحرير، رغم كل الخلافات، لأن التقارب الوطني يعني شراكة ومساءلة وإنهاء التفرد، بينما التقارب مع أمريكا لا يتطلب إلا تغيير الخطاب مقابل تثبيت حكم الأمر الواقع. هنا يصبح السؤال مشروعًا: لماذا يُفتَح الباب لواشنطن ويُغلَق في وجه البيت الفلسطيني؟ ولماذا يُبحث عن شرعية خارجية على حساب الشرعية الوطنية؟

أما السلاح الذي تتمسك به حماس بوصفه “سلاح المقاومة”، فإن الواقع المرير يقول إن المقاومة الشعبية سُحقت، والفصائل أُقصيت، والقرار العسكري احتُكر، والنتيجة شعب أعزل تحت القصف، محاصر بلا أفق، فيما يُستخدم ما تبقى من القوة لضبط الداخل وقمع أي صوت معارض. فأين هذا السلاح حين تُذبح العائلات؟ وأين حين تُسوّى الأحياء بالأرض؟ وهل بقي من السلاح إلا ما يحمي السلطة لا ما يحمي الشعب؟ إن التمسك بالسلاح بلا مشروع وطني جامع، وبلا وحدة، وبلا مساءلة، لا يصنع مقاومة، بل يصنع سلطة مسلحة فوق شعب منكوب.

كل المؤشرات تدل على أن الكرسي بات أولوية تتقدم على القضية، وأن البقاء في حكم غزة بأي ثمن هو الهدف، ولو كان الثمن تليين الخطاب لأمريكا، ولو كان الثمن القطيعة مع منظمة التحرير، ولو كان الثمن تحميل الشعب وحده نتائج قرار لم يُستشر فيه ولم يُحاسَب عليه أحد. بهذه المناشدة لأمريكا، تسعى حماس إلى شرعنة نفسها دوليًا دون استحقاقات وطنية، والقفز فوق منظمة التحرير بدل الاندماج فيها، وتثبيت حكم الأمر الواقع، وإعادة إنتاج نفسها كسلطة مقبولة لا كحركة تحرر وطني، لكن التاريخ لا يرحم، والشعوب لا تنسى، ومن يطلب الصفح من القاتل ويتجاهل دم الضحية يسقط أخلاقيًا قبل أن يسقط سياسيًا.

القضية الفلسطينية لا تحتاج إلى تمسّح بأمريكا، ولا إلى خطاب مزدوج، ولا إلى مقاومة بلا شعب، بل تحتاج إلى وحدة وطنية حقيقية، وقيادة خاضعة للمساءلة، واعتراف شجاع بالأخطاء قبل طلب الصفح من الخارج، لأن الصفح يبدأ من الشعب… أو لا يبدأ ابداً