تتبدّى العنصرية في صورٍ متعدّدة ومتنوّعة، فهي لا تظهر فقط في أشكالها الكلاسيكية الصريحة، بل تتمظهر كذلك في ما يُعرف بالعنصرية الثقافية الحديثة، أو «العنصرية الجديدة»، أو العنصرية التفاضلية، أو حتى عنصرية ما بعد الحداثة. ويُطلق هذا المفهوم على أنماط التمييز والتحيّز القائمة على التناقضات والاختلافات الثقافية بين الجماعات العرقية أو الإثنية. ويشمل ذلك الاعتقاد بتفوّق ثقافات على أخرى، والنظر إلى التنوّع الثقافي بوصفه حالة عدم انسجام بنيوي، يُفترض – وفق هذا المنطق – ألا يتعايش داخل المجتمع الواحد أو الدولة الواحدة.
وتختلف العنصرية الثقافية عن العنصرية البيولوجية أو «العلمية»، التي تقوم على التمييز والتحيّز استنادًا إلى الاختلافات البيولوجية الظاهرة بين الجماعات العرقية أو الإثنية.
وعلى الرغم من تنوّع أشكال النزعة العنصرية وتعدّد مسوّغاتها، فإنّ بنيتها العميقة كثيرًا ما تستند إلى فكرة وطنية ضيقة ذات طابع شوفيني، متداخلة مع نزعة ثقافية استعلائية ومركزية ذاتية. وعند هذه النقطة، تغدو العنصرية منهجًا سياسيًا ومسلكًا موجّهًا نحو الهيمنة والسيطرة، يمارسه «غالب» متفوّق على «مغلوب» يُنظر إليه بوصفه أدنى منزلة وتقدّمًا. وقد يتجلّى هذا الشكل من العنصرية في فرض قيم الغالب، ومعاييره، ونُظمه، ومساراته التاريخية على المغلوب الضعيف.
وهذا النمط من العنصرية الشوفينية–الاستعلائية هو ما شهدناه، وما نزال نشهده، في علاقات العديد من دول الغرب الأورو-أمريكي وأنظمته الحاكمة مع أمم وشعوب ودول وأحزاب خارج هذا الفضاء، لا تشاركه سياساته، ولا مناهجه، ولا منظومات قيمه السائدة. وغالبًا ما تُصوَّر هذه الأطراف، في المخيال الغربي المتعالي، على أنّها دونية حضاريًا وثقافيًا، بل وإنسانيًا في بعض الأحيان.
غير أنّ العنصرية لا تتأسّس دائمًا على محدّدات جغرافية أو سياسية خارجية، بل قد تقوم على أسس معرفية وثقافية–دينية داخل المجتمع الواحد نفسه. ففي هذه الحالة، لا يكون «الآخر» برّانيًا، يقع خارج المجال الوطني أو القومي، بل داخليًا، منتميًا إلى الدائرة الوطنية ذاتها، ومرتبطًا بها بروابط وثيقة. هنا يتحدّد الاختلاف لا عبر الكيانات السياسية، بل عبر تمايزات معرفية وثقافية ودينية داخل النسيج الاجتماعي نفسه.
وعند هذه العتبة، تنتقل العنصرية من كونها أيديولوجيا وطنية شوفينية إلى أيديولوجيا أنثروبولوجية معرفية مغلقة، تقوم على تقسيم الجماعة الوطنية الواحدة إلى هويات فرعية متنافرة، وتفكيك ما تجمعه القوانين والتشريعات من روابط جامعة.
وقد ركّز جزء كبير من الأدبيات الاجتماعية على ما عُرف بـ«العنصرية البيضاء» في الغرب الأورو-أمريكي. ويُعدّ عالم الاجتماع والناشط السياسي الأمريكي من أصل إفريقي ويليام إدوارد بورغاردت دو بويز (W. E. B. Du Bois) (1868–1963) من أوائل من تناولوا هذه الإشكالية بعمق علمي، إذ قال عبارته الشهيرة: «إنّ مشكلة القرن العشرين هي مشكلة خطّ اللون». وقدّم دو بويز أول دراسة سوسيولوجية علمية حول أوضاع السود، ونشر عددًا من السير الذاتية والمقالات المؤثرة في علم الاجتماع والتاريخ والسياسة. كما آمن بأنّ الرأسمالية تشكّل أحد الجذور الأساسية للعنصرية، وكان متعاطفًا مع الاشتراكية وناشطًا في قضايا السلام ونزع السلاح النووي.
وفي عام 1993، عرّف ويلمان العنصرية بأنّها «مجموعة من المعتقدات المسموح بها ثقافيًا، والتي – بغضّ النظر عن النوايا – تدافع عن الامتيازات التي يتمتّع بها البيض، نتيجة شغل الأقليات العرقية لمواقع تبعية». وفي علمَي الاجتماع والاقتصاد، غالبًا ما تُقاس نتائج الممارسات العنصرية بعدم المساواة في الدخل، والثروة، وفرص التعليم، والصحة، والعمل. كما يعتمد علماء الاجتماع وعلم النفس الاجتماعي مفهوم الهوية العرقية بوصفه عاملًا أساسيًا في تحليل الظواهر العنصرية، إذ تؤثّر الأيديولوجيات العنصرية في إدراك الأفراد للتمييز وفي تمثّلهم لذواتهم وللآخرين.
وليس التاريخ الفكري الغربي بمنأى عن هذه الإشكالية؛ إذ نجد لدى بعض أعلامه مواقف باتت تُعدّ اليوم خطرة أخلاقيًا. فقد آمن إيمانويل كانط بتقسيم هرمي للأجناس البشرية، وذهب أرسطو إلى تصوّرات تمييزية بين الرجل والمرأة، كما عبّر ديفيد هيوم عن شكّه في مساواة «الزنوج» بالبيض. وهي مواقف تكشف كيف تسرّبت العنصرية إلى صميم التفكير الفلسفي الكلاسيكي.
وقد أدّى تفشّي العنصرية عالميًا إلى دفع الجمعية العامة للأمم المتحدة لاعتماد الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري عام 1965، والتي دخلت حيّز النفاذ عام 1969. ولاحقًا، عرّف برنار كازناف وآخرون العنصرية بوصفها نظامًا من الامتيازات الجماعية، متماسكًا بأيديولوجيا تفوّق عرقي، يعمل على مختلف مستويات المجتمع.
وفي السياق المعاصر، تشير دراسات علم النفس الاجتماعي إلى أنّ العنصرية الصريحة تراجعت نسبيًا في العديد من المجتمعات الغربية، لتحلّ محلّها أشكال أكثر خفاءً وتضمينًا، تُعرف بالعنصرية الضمنية. وهي مواقف وتحيّزات لا واعية، تتشكّل بفعل التجارب الاجتماعية السابقة، وتؤثّر في السلوك دون إدراك مباشر من الفرد.
وتتجلّى هذه العنصرية الظاهرة والباطنة بوضوح في معاناة المهاجرين واللاجئين القادمين من بلدان الجنوب إلى الغرب الأورو-أمريكي، ولا سيما في ظل صعود التيارات الشعبوية. ولا يقتصر هذا التمييز على المهاجرين الجدد أو غير النظاميين، بل يمتدّ إلى مواطنين من أصول غير غربية، استقرّت عائلاتهم في تلك البلدان منذ أجيال، واندمجوا في مجتمعاتها إلى حدّ بعيد.
وتتفاوت حدّة العنصرية تبعًا للظروف السياسية والاجتماعية، وغالبًا ما تشتدّ مع الأزمات الداخلية أو الصدامات الخارجية. كما ترتفع بشكل ملحوظ ضد الفئات الكادحة، كعمّال الخدمات، بينما تنخفض نسبيًا تجاه الفئات ذات المكانة الاقتصادية أو العلمية العالية. ويكفي تأمّل أوضاع العمال العرب والأفارقة في أحياء هامشية وغيتوهات داخل دول كبرى كفرنسا والولايات المتحدة وبريطانيا، لإدراك عمق التمييز المركّب الذي يعانونه.
خاتمة
إنّ التحدّي الحقيقي لا يكمن فقط في سنّ القوانين وتجريم التمييز، بل في بناء وعي ثقافي إنساني جامع، يُمكّن الأفراد من تجاوز التحيّزات الموروثة، ويفتح أفق «نحن» إنسانية كلية، تتجاوز الانقسامات العرقية والثقافية والدينية، وتؤسّس لكرامة إنسانية واحدة، غير قابلة للتجزئة أو التمييز.









