عندما مرّ سيدنا عمر بن الخطاب (ر ض) على أعرابيّ أصاب ناقته الجرب؛ وإذا به يرفع يديه إلى السماء يدعو الله أن يشفي له ناقته، فقال له عمر: “يا أخي أيّدْ دعاءك بشيءٍ من القطران”.
اليوم، وفي الوقت الذي تجتاح فيه العواصف قطاع غزة، وتغمر مياه الأمطار خيام النازحين في شتاءٍ قاسٍ يضاعف الجراح، تتصدّر الدعوات الإلكترونية منصات التواصل الاجتماعي: “اللهمّ كن لأهل غزة عونًا ونصيرًا”.
لكن ما بين “الدعاء” و”العون” مسافة لا تزال شاسعة، وما بين حرارة العاطفة وبرودة الواقع فجوة تُقاس بعدد الأرواح التي تفقدها غزة كل يوم تحت وطأة الجوع والبرد والخذلان.
إنّ الدعاء بلا عمل مهما عَلا صداه، لا يمكن أن يعيد الدفء إلى طفل يرتجف في خيمة مبللة، ولا أن يمنح الدواء لمريض يعجز عن الوصول إلى مستشفى بلا كهرباء. غزة اليوم لا تحتاج إلى هاشتاغات موسمية، بل إلى إغاثة حقيقية، ومساءلة عادلة، واستعادة للضمير الإنساني الذي أرهقه الصمت.
من يتأمّل مشهد غزة اليوم، يدرك أنّ فصل الشتاء هناك لا يُقاس بدرجات الحرارة، بل بدرجات الألم. الأمطار التي نراها من بعيد مشهدًا طبيعيًا، تتحول داخل المخيمات إلى فيضان يقتلع ما تبقى من حياة، والماء الذي نراه رمزًا للخصب، يصبح في غزة عنوانًا للغرق، ومؤذنًا بموجة جديدة من النزوح داخل النزوح.
وسط هذا المشهد القاسي، تتكاثر خطابات العزاء الافتراضي، فيما تُترك آلاف الأسر لتواجه البرد بأغطية بالية وقلوب أنهكها الانتظار.
في خضمّ هذه المأساة، يبرز سؤال لا يقلّ إلحاحًا عن سؤال الإغاثة: أين ذهبت ملايين الدولارات التي جُمعت باسم غزة؟
لقد شهدت السنتان الماضيتان تدفّقا غير مسبوق للتبرعات تحت عناوين إنسانية، لكنّ الواقع في القطاع لا يعكس سوى المزيد من البؤس والانهيار.
البيوت المدمّرة لا تزال ركامًا، المخيمات تضيق بالفقراء، والمساعدات لا تصل إلا نادرًا. هذا التناقض الصارخ يفتح الباب واسعًا أمام الحديث عن الفساد والنهب باسم العمل الإنساني، وعن مبادرات تحوّلت إلى واجهات دعائية ووسائل للتكسّب على حساب المأساة.
هنا، تبرز الحاجة الملحّة إلى مساءلة حقيقية وشفافية كاملة، فالأموال التي جُمعت باسم غزة ليست ملكًا للمنظمات ولا للأفراد، بل لأصحاب الحق فيها؛ المدنيون المحاصرون الذين يدفعون ثمن الإبادة والبرْد معًا.
لقد أعاد العصر الرقمي تعريف التضامن الإنساني، لكنّه في حالة غزة كشَف أيضا وجهه الآخر: “المتاجرة بالألم”.
وتحوّلت بعض المنصات إلى منصات للربح السريع، حيث تُستغل الصور المأساوية لجمع التبرعات دون ضمانات، بينما يُحجب الضوء عن المبادرات الصادقة التي تعمل بصمت على الأرض.
إنّ الخطوة الأولى في طريق إنقاذ غزة رقميًا تبدأ من تطهير الفضاء الافتراضي من الزيف، وتحويله إلى أداة رقابة شعبية تحاسب وتوثق وتمنع تضليل الرأي العام.
وفي المقابل، يجب توظيف هذه القوة الرقمية في الاتجاه الصحيح، حملات موثقة بإشراف مؤسسات وطنية ومؤسسات دولية معترف بها، تتيح تتبع الأموال علنًا، وتنشر بياناتها بشفافية، لتعيد الثقة إلى مفهوم الإغاثة بعد أن كاد يفرّغ من معناه.
إنّ غزة لا تطلب شفقة ولا عبارات حنين عابرة، بل منظومة استجابة إنسانية رشيدة. ومن هنا تبرز مجموعة من الأولويات؛ أولها: تشكيل لجنة رقابية محلية ودولية مشتركة لمراجعة ملف التبرعات والمشروعات السابقة، وإعلان نتائجها للرأي العام.
ثانيا: إنشاء صندوق إغاثة موحّد وشفاف، يخضع لتدقيق دوري يُدار بعيدا عن المصالح الشخصية، ثالثا: إطلاق حملة رقمية عالمية مسؤولة، تشرف عليها مؤسسات إعلامية وإنسانية ذات مصداقية، تواكب العمل الميداني وتوثّق نتائجه بالبيانات لا بالشعارات.
رابعا: إشراك الشباب الفلسطيني والناشطين الرقميين في إدارة محتوى الإغاثة، لأنهم الأقدر على حماية الحقيقة من التزييف وعلى ربط الوجدان العالمي بالفعل الحقيقي لا بالصورة العابرة.
ستظل غزة تختبر صدق إنسانيتنا كل شتاء. فهناك، بين خيمة غارقة وطفل متجمّد من البرد، ومريض ينتظر الدواء، يُكتب الامتحان الحقيقي للعالم الرقمي: هل نحن مجتمعُ تفاعلٍ وتعاطفٍ مؤقت؟ أم مجتمعُ وعيٍ ومسؤولية وضمير؟
فليس بالدعاء وحده ننقذ غزة.
بل بالمساءلة التي تفضح من نهبوا باسمها، وبالشفافية التي تعيد الحق لأهله، وبالفعل الجماعي الذي يجعل من الفضاء الرقمي جسرًا نحو الحياة، لا مرآة ً تعكس البكاء.






