كيف ساعدت “التيارات اليسارية وتيار دحلان” السنوار في حكم غزة؟
الأمر لم يكن بحاجة إلى سنوات طويلة ونظرة فاحصة لمعرفة المرحلة الجديدة التي دخلتها حركة حماس في عام 2017 عندما أجرت انتخاباتها الداخلية لقيادة الحركة في غزة والتي فاز فيها يحيى السنوار، حيث انتقل ثقل العمل التنظيمي إلى القطاع من جديد، بعد سنوات من احتكار “البراغماتيين” في الخارج لرئاسة المكتب السياسي لأكثر من عقدين، حيث تكرس هذا الاحتكار بعد استشهاد الأب الروحي للحركة الشيخ أحمد ياسين وبعده الدكتور الرنتيسي ليتفرد تيار الخارج بكل شيء في الحركة.
من يعود إلى ثمانية سنوات مضت، يعرف أن لحماس مسارات محددة، بغض النظر عن رجال المرحلة ولكن الحقيقة التي يمكن رؤيتها بوضوح أن هناك بصمات حادة ودورا هائلا قام به السنوار فور انتقاله إلى مركزه الجديد بقيادة غزة، ليركز بشكل غير مسبوق على السلطة داخل الحركة، وإجراء تحولات عميقة في موازين النفوذ داخل بنيتها القيادية، سواء على المستوى التنظيمي أو السياسي أو الجغرافي.
الغريب، أن السنوار ذو الخلفية الأمنية والعسكرية، لم يعد يقود الحركة بمنطق التوافق التقليدي الذي كان سائدا في مراحل سابقة من تاريخ التنظيم الإسلامي، بل اتبع إجراءات صارمة أقرب إلى القيادة المركزية المغلقة، مما أدى لاضعاف الدور “المؤسساتي” تدريجيا داخل الحركة، وعمل على تكريس نفوذ الدائرة الضيقة المحيطة به، خصوصا تلك المرتبطة بالجناح العسكري، أما الدعوي والسياسي والإعلامي فقد حوّل خانيونس -مسقط رأسه- إلى مركز ثقل كبير داخل الحركة، مع تزايد حضور أبنائها في المواقع الحساسة، ما أثار انتقادات داخلية حول اختلال التوازن المناطقي داخل حماس، وهي حركة لطالما حاولت تاريخيا الحفاظ على توزيع جغرافي للنفوذ، رغم أن مدينة غزة كانت في قيادة أغلب المؤسسات الحركية.
ومن أكثر ملامح تلك المرحلة ظهورا للعلن، التغيير الكبير في خارطة النفوذ الإقليمي داخل حماس، فعمل على تعزيز موقع الجناح الأقرب إلى إيران والذي يرأسه هو شخصيا، على حساب أجنحة أخرى ارتبطت بعلاقات سياسية مع تركيا وقطر، فاشتعلت الحركة بصراعات آنذاك على المناصب القيادية، بين التيارات الثلاثة “تيار هنية” و”تيار مشعل” و”تيار السنوار”، فتم التوافق بعد تدخلات “تركية قطرية إيرانية”، على أن يكون هناك ثلاثة رؤساء للحركة، رئيس المكتب السياسي إسماعيل هنية، ورئيس حماس في الخارج خالد مشعل، ورئيس حماس غزة يحيى السنوار، ثم طل بعد ذلك تيار صالح العاروري الذي تم تسليمه موقعا شرفيا بلا صلاحيات، نائبا لرئيس المكتب السياسي ورئاسة الحركة في الضفة الغربية، وهو إقليم “مهمّش” فعليا ولا يتمتع بأي نفوذ حقيقي داخل الحركة نظرا لسلسلة قضايا الفساد داخله، واتهامه بكثرة العملاء داخله لإسرائيل أو التعاون وتسريب المعلومات للأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية.
وبعد أن أثبت جدارته بحكم غزة والتفرد به، دعم القطريون تيار السنوار في قطاع غزة، بعد طرد قيادات حماس القريبة من هنية وتحجيم حركة الجهاد الإسلامي والتيارات السلفية الجهادية داخل القطاع، وكسب ولاءات قيادات فلسطينية من مختلف التيارات اليسارية والفتحاوية المنشقة عن حركة فتح الأم، كتيار محمد دحلان مثلا.
أما هنية، فقد فشل فشلا ذريعا في وقف سياسات السنوار داخل الحركة عامة والقطاع خاصة، فحاول تجفيف الموارد المالية لتيار السنوار الذي نجح في عقد “تفاهمات حياتية ذات نسق أمني” مع أجهزة الأمن والاستخبارات الإسرائيلية من خلال قطر، والتي جاء ثمنها إمداده بالأموال شهريا بحقائب 15 مليون دولار تدخل من خلال مطار بن غوريون بعد التفتيش الأمني الإسرائيلي، يحملها السفير القطري محمد العمادي مباشرة إلى السنوار الذي يتحكم تماما بآليات صرفها، فلم يعد القطاع يتحمل رئيسين اثنين وكان لا بد من خروج أحدهما من المشهد الحمساوي – الغزاوي حتى لا يصبح صدام بين التيارين، مما يؤثر بالتأكيد على حكم حماس للقطاع.
انتصر القطريون للسنوار مرة أخرى، وضمنوا خروجا لائقا لهنية مع أولاده وزوجاته من قطاع غزة، ولم يكتف السنوار بذلك بل طرد معظم القيادات التقليدية لحماس والتي كانت قريبة من هنية وبالأسماء: “فتحي حماد، غازي حمد، خليل الحية، سامي أبو زهري وطاهر النونو”، وأسكت بالقوة قيادات أخرى، كمحمود الزهار الذي اختفى تماما عن الساحة السياسية والإعلامية الحمساوية.
كان ذلك لإنهاء فكرة وجود أي منافس حقيقي للسنوار على أرض غزة، والتفرد بحكم القطاع وقرارات السلم والحرب فيه، وهذا بالفعل أدى لتراجع الدور الفعلي لهنية ومشعل، اللذين شكلا تاريخيا واجهة سياسية خارجية للحركة، في مقابل صعود قيادات ميدانية وأمنية تتركز داخل غزة.
في عهد السنوار، ابتعدت الحركة عن نموذج “الحركة متعددة الأجنحة”، واقتربت من نموذج القيادة الفردية، حيث تُدار القرارات الكبرى – السياسية والعسكرية – من دائرة ضيقة، مع هامش محدود للنقاش أو الاعتراض الداخلي.
ومنذ نجاح السنوار في قيادة حماس غزة، فرض نفسه ليكون “ديكتاتورا” لواجهتها وقائدها حتى على مستوى المكتب السياسي العام، فأصبحت الحركة أكثر عسكرية، أكثر التصاقا بمحور إقليمي واحد، وأقل انفتاحا على التوازنات الداخلية، وكأنه كان يقول للجميع “أنا الزعيم المطلق الذي لا يُعصى”.. فاغتيل العام الماضي وتسبب في اغتيال الحركة جميعا، وللحديث بقية في المقال القادم.





