هنا،وعلى بعد عشرين كيلومترا من شرق حيفا، نبتت قرية على ضفاف مرج بن عامر الخلاَّب،كان تسمى ” لِدْ العوادين”،وأهلها كانوا ولا زالوا حمولة من حمايل عرب التركمان السبعة،التي سكنت المنطقة منذ مئات السنين،هذه القرية الوادعة الصغيرة لها مع النكبة مشهد مؤلم،وقصة مؤثرة كان بطلها شيخ عشيرتها الشيخ توفيق الأسعد الذي قضى شهيداً مقهوراً مظلوماً من أثر ما اقترفته الصهيونية وعصاباتها بحق الشعب العربي الفلسطيني إبان النكبة وما تبعها.
كانت “لد العوادين”عروس تفخر بأبنائها وبالحب الساكن فيها ليل نهار،بلغ تعداد سكانها في العام ثمانية وأربعين،الف وخمسماية نسمة،نصفهم تقريبا من الرجال،أقل من نصفهم بقليل من الفرسان المسلحين،كان لحوافر خيولهم في مرج بن عامر صولات وجولات،وغبار يحكي صور البطولة والفداء والتضحية،كذلك النخوة والرجولة في إغاثة ومساعدة من حولهم من القرى والتجمعات التي كانت تهب للذود عن حياضها ضد هجمات عصابات “الهاغانا” و”الشتيرن” و”الارغون”،والجيش البريطاني المستعمر،ومن القرى والبلدات التي كانت حولها “أبوشوشه”،و”المنسي”،و”الغبيات”،و”عين المنسي”، و”المنسي” و” الشقيرات “،وقد كان الفرسان يشاركون الأهالي الأفراح والأتراح في مشاهد من الألفة والمحبة التي ورثوها عبر الأزمنة عن الأجداد،فتراهم على رأس كل فرح،وفي مقدمة كل ترح،يدفعهم الحب والانتماء للوطن الذي يضم العشيرة والحمولة،والتراب الذي تنموا من فوقه الحياة الكريمة،وكان الفرسان المغاوير يأتمرون بشيخ عشيرتهم الشيخ توفيق الاسعد الذي كان يعتبر وجيها من وجهاء منطقة عشيرة التركمان برمتها،وكذلك منطقة اللَّجون وام الفحم ووادي عارة، وكان للشيخ توفيق الاسعد الحضور الكبير والاحترام والتقدير بين وجهاء المنطقة لما له من سمعة عمّدها بالكرم والجود وإصلاح ذات البيّن،ومن صفات وسمات وخصال توارثها من بيت المشيخة أبا عن جد باهلية وإقتدار.
كان لبيته الواسع الكبير الذي يحوى ديوان وعدة غرف ومضافة لا تنطفئ من تحت دلالها النار التي تصنع القهوة العربية السمراء،وبئر ماء في وسط الساحة ميزة خاصة،كان البئر الذي هو عبارة عن نبع ينبض بالماء الزلال أحد علامات العز والجاه والكبرياء والأنفة التي ربت ونمت مع الشيخ توفيق الأسعد عندما كان طفلا ثم فتى ثم شابا ثم شيخا،هذا البئر كان مرآة لصور الطفولة والذكريات،فيه الحكايا والقصص ووصلات الدلعونا وظريفة الطول،وكلمات الراوي،وأشعار الحادي والزجَّال،وكلمات الحب الطاهر النقيّ،وتماوج السنابل،وتراويد النسوة حول القدور.
هنا تربى الشيخ ونما،وعاش سيدا في قومه وبين عشيرته،حتى جاءت النكبة،كان لا بد من الذود عن الحياض،فجاد الفرسان بأغلى ما يملكون،كانت جحافل العدو تأتهيهم من الجهات الاربع إنطلاقا من مستعمـــرة ” مشمار هعيمق” التي بنيت على أرض مجاورة “للد العوادين”باعها أحد البيكاوات الغرباء لليهود قبل عام الثمانية والاربعين،فكان مصيره القتل على يد الثوار.
في الربيع من سنة الف وتسعماية وثمانية وأربعين،إشتدت وطئة الهجمات الصهيونية على قرى تجمع التركمان والقرى المجاورة،فكانت مذبحة بلد الشيخ الواقعة شرق حيفا والتي راح ضحيتها ستة وثمانون شهيدا في معركة استمرت عدة ايام،كان لهذا الحدث الأثر الكبير في سير المواجهات التي حصلت في المنطقة،والتي كانت” لد العوادين” في مقدمتها،وأمام الحشودات لعصابات “الشتيرن” و”الهاغانا” و”الارغون ” ،وكثرة العتاد والعدة وكثافة النيران،أتت تلك العصابات بعد ايام من المواجهات الضارية على الأخضر واليابس في تلك المنطقة،فأصبحت “لد العوادين” وما حولها أطلالا يسكنها الخراب والدمار والدخان،الذي أتى بنيرانه على كل شيء،فرحل من تبقى من الأهل رحلة العذاب والمرارة هائمين على وجوههم إلى الشتات،قسم منهم إلى ارض بالقرب من مدينة اربد الأردنية،فزُرعت الخيام وأطلق على ذلك التجمع لاحقا “مخيم اربد”، وحيّ التركمان،وقد كان من بينهم الشيخ توفيق الأسعد،لكن بغير رداء ألأمس،الشيخ أسعد الآن حزين مكسور الجناح والوجدان،ضاقت عليه الأرض بما رحبت،وأضحى في خيمة اللجوء هوائها أسود،وافقها أسود،وشعاع شمسها أسود،فالتزم الصمت كأبلغ لغة للتعبير عما يعاني،ويعاني أهله وربعه وشعبه المنكوب.
*
مرت عدة سنوات على تلك الحال،والشيخ توفيق لا يغادر خيمته إلا إلى الفناء الضيق يحاكي بصمته البؤس الذي يحيط به،وفي قلبه وقلب من حوله تسأل حالم وجواب قاصم” هل نعود؟؟… حتما سنعود ” .
وفي يوم صيفي حار كحرارة الشوق للوطن والتراب،جاء ممثل الصليب الأحمر إلى مخيم إربد يسال الربع عن الشيخ توفيق… حملوه إليه …قال له: –
لقد جاءتك دعوة من وجهاء آم الفحم لزيارتهم…
هذه الكلمات نكشت في نفسه الذكريات،هل أرى البلاد قبل أن أموت ؟!… سأذهب…إنها فرصة ليبتل شوقي الذي تصدعت منه مساحات نفسي البائسة،سأذهب… سأذهب … رددها عدة مرات وهو يحاول رد إعتراض أبنائه على هذه الزيارة لخوفهم عليه….أخرج من جوفه عبارات الأمر والنهي التي كانت ديدنه بالأمس عندما كان سيداً في قومه…فسكت الجميع،ونزلوا عند رغبته خوفاً من أن يصيبه مكروه.
*
على مفرق أم الفحم كانوا في استقباله،لقد لبسوا العباءات التي تحمل دلالات كثيرة،لقد اقتربت الحافلة التي أقلته…ها هو يترجّل … لم يعرفوه…من يصدق آن هذا الجسد النحيل المنهك هو الشيخ توفيق الأسعد؟!
تقدموا منه عانقوه… فأجهش بالبكاء المُرّ… مسح الحضور دموعهم بأطراف كوفياتهم،وصحبوه إلى البيت الذي سينزل فيه…
فكانت جلسات السمر والسهر بما فيها من حديث وشجون غير كافية في إحداث أي تغيير في نفسه المجروحة..
طلب منهم أن يصطحبوه إلى هناك … إلى ما تبقى من ” لد العوادين “…رفضوا بشدة خوفا عليه …أدركوا أن مكروها سيصيبه إن نزل في أرضه المسلوبة…
لم يتعب من محاولة إقناعهم والإلحاح عليهم بالسماح له برؤية البلاد قبل أن يدركه الموت … فنزلوا عند رغبته ولكن بشروط… أن يراها من بعيد … من سيارة سترحل غدا إلى حيفا … وسيرافقه شابان من البلدة … ولن يسمح له بالنزول من السيّارة … فوافق !!
*
تحركت الشاحنة التي تقل الرجال الثلاثة صوب حيفا،محملة بالوصايا والتعهدات التيَ قُطِعَتْ،وشقت طريقها شمالا ثم سرعان من انعطفت غربا نحو حيفا … وكلما اقتربت من المكان زادت دقات قلبه،وأجهده العرق … هذه هي أرضنا … تبدوا بجمالها رغم الحزن الذي يلفها …يا إلهي لا أكاد امسك قلبي الذي يكاد أن يحطم ضلوعي … لحظات صعبة مرت قبل أن تتجاوز السيّارة ذلك المكان.
وبعد ساعات عادت السيّارة أدراجها من حيفا إلى أم الفحم في المشهد الثاني من هذه الدراما المؤثرة…. لقد وصلت السيّارة قرب البيت المُهدَّم …قرب البئر الذي يعكس ضوء الشمس بشوق الفاقد للأهل والأحبة،استحلفهم أن يتوقفوا… لم يقبلوا… صرخ وأمسك المَّقود بكلتا يديه… إنحرفت السيّارة…كادت أن تنقلب،فتوقفت… أسرع وقفز من الباب،وركض إلى فناء منزله العتيق بحالة هستيرية … رأى البئر ..فانكب علية يشربَ بِنَهَمٍ ليطفئ ظمأه الشديد… شرب وشرب وشرب… وبقيَ منكباً على الماء حتى أدرك مرافقاه أن مكروها له قد حصل … أسرعا نحوه فرفعاه بصعوبة بالغة ليجداه قد أصيب بالشلل النصفي،وفقد النطق والحركة في نصف جسمه …فكانت عودته إلى هناك ..إلى مخيم إربد … ليلمح اللاجئون في عينيه أثر الشوق القاتل،ففاضت روحة العاشقة إلى بارئها بعد ثلاثة أيام،ليسدل الستار عن لوحة إنسانية حزينة من المعاناة والتشرد كتبت تحت خيام اللجوء.







