فلسفة الوجود الفلسطيني وفلسفة الحل عند الرئيس محمود عباس (أبو مازن)

بقلم الدكتور صالح الشقباوي*

مقدمة:
جدليات الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي
يُعدّ الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي أحد أكثر الصراعات تعقيداً في التاريخ المعاصر، ليس فقط لطوله الزمني، بل لطبيعته الجدلية المركّبة التي تمزج بين الاستعمار، والهوية، والدين، والجغرافيا، والديموغرافيا، والذاكرة التاريخية. وقد بدأ هذا الصراع فعلياً مع قيام دولة إسرائيل عام 1948، بعد انسحاب القوات البريطانية من فلسطين، وتنفيذ الجزء المتعلق بإقامة الدولة الإسرائيلية من قرار التقسيم رقم 181، مقابل تعطيل الجزء المتعلق بإقامة الدولة الفلسطينية.
هذا الخلل التأسيسي في تطبيق القرار الدولي أسّس لواقع سياسي غير متوازن، حوّل الفلسطيني من شعبٍ صاحب أرض إلى شعبٍ مُشرّد، وأدخل المنطقة في صراع مفتوح لم تُحسم جدلياته حتى اليوم. ومن هنا نشأت ثنائية مركزية: دولة قامت، وشعب حُرم من دولته، رغم اعتراف المجتمع الدولي بحقه.

تفكيك الهوية الوطنية الفلسطينية بعد النكبة

أدّت نكبة عام 1948 إلى تشريد أكثر من 800 ألف فلسطيني، وتفكيك البنية الاجتماعية والوطنية الفلسطينية، وتحويل الفلسطيني من مواطن في وطنه إلى لاجئ يبحث عن خيمة تؤويه وعن حصة غذائية من وكالة الغوث (الأونروا). لم يكن التهجير مجرد فعل ديموغرافي، بل كان مشروعاً متكاملاً استهدف المكان والزمان والتاريخ، عبر تهويد الجغرافيا، وإعادة كتابة التاريخ، ومحاولة اقتلاع الفلسطيني من ذاكرته ووجوده.
في تلك المرحلة، جرى إخراج الفلسطيني من التاريخ عنوة، وتحويله إلى رقم في سجلات اللجوء، فاقداً لفاعليته السياسية، ومجرداً من كينونته الوطنية.
الثورة الفلسطينية: استعادة الكينونة والوجود
جاءت الثورة الفلسطينية المعاصرة لتشكّل نقطة التحول الكبرى في مسار القضية الفلسطينية. فقد أعادت الثورة للفلسطيني مكوّناته الوجودية الأساسية، وحوّلته من لاجئ ينتظر الإعانة إلى ثائر يحمل بندقية ويطالب بوطن. لم تكن الثورة مجرد فعل عسكري، بل كانت فعلاً وجودياً أعاد للفلسطيني حضوره في التاريخ، وأعاد تعريفه لذاته كصاحب قضية وهوية ووطن.

ساهم النضال الفلسطيني في إعادة إبراز الهوية الوطنية الفلسطينية، وربط الديموغرافيا بالجغرافيا، والتاريخ بالزمان، وتكريس مفهوم الكينونة الوطنية الفلسطينية بوصفها حقيقة سياسية وتاريخية، لا مجرد سردية أخلاقية.
التحول في الوعي والعقل الفلسطيني
أحد أهم إنجازات الثورة الفلسطينية تمثّل في التحول العميق في العقل الفلسطيني الجمعي. فقد انتقل الفلسطيني من حالة السكون والانتظار إلى حالة الفعل والمبادرة، ومن الهامش إلى مركز الحدث. هذا التحول لم يكن عسكرياً فقط، بل فكرياً وثقافياً، أعاد للفلسطيني وعيه التاريخي، وربطه بجغرافيته، ومنحه معنى جديداً للوجود والصمود.
فلسفة أبو مازن في الحل: من الثورة إلى الدولة
في هذا السياق التاريخي والفكري، تبرز فلسفة الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن) في مقاربة الصراع وحلّه. تنطلق فلسفة أبو مازن من قناعة راسخة بأن الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي لا يمكن حسمه عسكرياً، وأن طريق الدولة الفلسطينية يمر عبر الحل السلمي، والتفاوض، والشرعية الدولية.

تقوم فلسفة أبو مازن على نبذ العنف، ورفض منطق الدم والاستشهاد كأداة لتحقيق الأهداف الوطنية. وهو بذلك يختلف جذرياً عن فلسفة الكفاح المسلح التي جسّدها الرئيس الراحل ياسر عرفات (أبو عمار)، والذي رفع شعار: «على القدس رايحين شهداء بالملايين». فبينما رأى أبو عمار في الثورة المسلحة وسيلة لإعادة القضية إلى الواجهة، يرى أبو مازن في السلام وسيلة للحفاظ على ما تبقى من الأرض والإنسان.

السلام: واقع أم حق؟

تطرح فلسفة أبو مازن أسئلة إشكالية عميقة حول طبيعة السلام الفلسطيني–الإسرائيلي:
هل أُقيم هذا السلام على أسس عقلانية وأخلاقية وإدراكية، أم على أساس موازين قوى مختلّة؟
هل يعترف الفلسطيني بدولة إسرائيل كواقع مفروض، أم كحق تاريخي؟
هل تخلى الفلسطيني عن فكرة الوطن التاريخي لصالح دولة على جزء منه؟
وهل تخلّى المشروع الصهيوني فعلاً عن حلم «إسرائيل الكبرى» لصالح دولة ضمن حدود قرار التقسيم 181؟
هذه الأسئلة تكشف هشاشة عملية السلام، وتبيّن أن الاعتراف المتبادل لم يُحسم على مستوى الحقوق، بل بقي في إطار الواقع السياسي المفروض.

حل الدولتين بين الفلسفة والتطبيق

يتمسك أبو مازن بحل الدولتين بوصفه المخرج السياسي الوحيد الممكن، استناداً إلى قرار التقسيم 181 وقرارات الشرعية الدولية. غير أن هذا الحل، رغم منطقيته القانونية، يصطدم بواقع الاحتلال والاستيطان، وبتراجع الاستعداد الإسرائيلي للاعتراف بالحقوق الفلسطينية كاملة.
خاتمة: بين الوجود والحق
إن فلسفة الوجود الفلسطيني، كما تتقاطع مع فلسفة الحل عند أبو مازن، تكشف عن صراع عميق بين منطق الثورة ومنطق الدولة، وبين منطق الحق ومنطق الواقع. فالفلسطيني، الذي أعادته الثورة إلى التاريخ، يواجه اليوم تحدي الحفاظ على وجوده السياسي والوطني في ظل ميزان قوى مختلّ، وسلام لم يُبنَ بعد على أسس العدالة التاريخية.

ويبقى السؤال مفتوحاً: هل يستطيع المشروع السلمي أن يحقق ما حققته الثورة على مستوى الكينونة والهوية؟ أم أن الصراع سيظل مفتوحاً ما لم يُحسم جوهره الأساسي: حق الفلسطيني في وطنه، لا مجرد اعتراف بواقع مفروض؟

* أستاذ الفلسفة والعلوم الاجتماعية في جامعة بوزريعة وبودواو