في خضم الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، حيث تتقاطع القوة مع التاريخ، والسياسة مع الجغرافيا، يبرز الدور الفكري للدكتور صالح الشقباوي بوصفه أحد الأصوات الفلسطينية التي أعادت الاعتبار للفلسفة كأداة نضال، وللفكر كجزء أصيل من معركة الوجود على المكان. فقد شكّل مشروعه الفكري مساهمة نوعية في دعم المشروع الوطني الفلسطيني، عبر مقاربة عميقة للهوية، والأرض، والدولة، والسلام، ضمن جدلية «حق القوة وقوة الحق».
ينطلق فكر الدكتور الشقباوي من مسلّمة أساسية مفادها أن الحق الفلسطيني في المكان ليس مجرد ادعاء تاريخي أو سياسي، بل هو حق وجودي-أنطولوجي، متجذر في علاقة الفلسطيني بأرضه بوصفها حاضنة للذاكرة والهوية والمعنى. فالمكان، في رؤيته، ليس مساحة جغرافية فحسب، بل هو شرط الوجود الوطني، ومن دونه يتحول الشعب إلى جماعة منفية، فاقدة لمرتكزها الرمزي والتاريخي.
وفي مواجهة منطق «حق القوة» الذي ساد طويلاً في إدارة الصراع، عمل الدكتور الشقباوي على ترسيخ «قوة الحق» كمعادلة موازية وقادرة على إحداث توازن أخلاقي وسياسي في الصراع. فالقوة العسكرية، برأيه، لا تُنتج شرعية، بينما الحق، حين يُصاغ فكرياً ويُدافع عنه سياسياً وأخلاقياً، يتحول إلى قوة ناعمة قادرة على إعادة تعريف الصراع ومساراته. ومن هنا، جاءت مساهمته الفكرية في إعادة بناء الخطاب الفلسطيني، من خطاب الضحية وحدها إلى خطاب صاحب الحق القادر على الدفاع عنه بالعقل والشرعية الدولية.
كما ارتبط فكر الدكتور صالح الشقباوي ارتباطاً وثيقاً بالنضال من أجل إقامة الدولة الفلسطينية، لا بوصفها كياناً سياسياً فقط، بل باعتبارها الإطار الطبيعي لإنهاء المنافي، وإلغاء الشتات، واستعادة وحدة الوجود الفلسطيني على أرضه. فالدولة، في تصوره، هي نقيض المنفى، وهي التعبير القانوني والسياسي عن العودة الرمزية والمادية معاً. لذلك شكّل مشروعه الفكري دفاعاً عن مركزية الوطن في مواجهة التفكك، وعن حق الفلسطيني في أن يكون «هنا» لا «هناك».
وفي سياق انتمائه ودوره داخل حركة فتح، يبرز الدكتور الشقباوي كمفكر وطني ساهم في تعميق فهم الحركة لنظريتها النضالية، القائمة على التدرج، والواقعية السياسية، وربط الكفاح الوطني بالأفق السياسي. فقد دافع عن فتح بوصفها حركة تحرر وطني أدركت مبكراً أن النضال لا يقتصر على البندقية، بل يشمل الفكر، والدبلوماسية، وبناء الإنسان، وصناعة السلام العادل.
ويكتمل مشروع الدكتور صالح الشقباوي الفكري في إسهامه بصياغة مفهوم السلام العادل، السلام الذي لا يقوم على الإخضاع أو إنكار الآخر، بل على الاعتراف المتبادل بالحق في الوجود، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس، بما يحقق طموحات الشعب الفلسطيني، ويؤسس لإمكانية العيش المشترك بين الشعبين على أرض واحدة، في إطار العدالة لا الهيمنة.
هكذا، يمثّل الدكتور صالح الشقباوي نموذجاً للمثقف المناضل، الذي جعل من الفلسفة فعلاً مقاوماً، ومن الفكر الوطني أداة لبناء الدولة، ومن قوة الحق طريقاً لمواجهة حق القوة، في معركة الفلسطيني المستمرة من أجل الأرض، والهوية، والحرية.





