السياسي -متابعات
في لحظة دولية يتسارع فيها البحث عن بدائل مستقرة للطاقة التقليدية، تتقدم قطر بخطوات محسوبة نحو إعادة تموضع استراتيجي في أسواق الطاقة العالمية.
فالدولة التي ارتبط اسمها لعقود بالغاز الطبيعي، تدخل اليوم مرحلة مختلفة، قوامها الهيدروجين والأمونيا منخفضة الكربون وتقنيات احتجاز الكربون، ضمن سياق عالمي يتقاطع فيه الاقتصاد مع المناخ، والسياسة مع سلاسل الإمداد، والاستثمار مع الأمن الطاقي.
لا يأتي هذا التحول من فراغ. فالتقلبات الجيوسياسية، وارتفاع كلفة الموارد، وتشدد المعايير البيئية في أوروبا وآسيا، دفعت دولاً منتجة ومستهلكة إلى إعادة التفكير في معادلة الطاقة.
وفي هذا المشهد، تحاول الدوحة الاستفادة من بنيتها التحتية القائمة وخبرتها التراكمية لتأمين موقع مؤثر في أسواق الوقود النظيف، من دون الانفصال عن واقع الطلب العالمي المتزايد.
اقتصاد نما بسرعة… وتحديات انبعاثات حاضرة
تُظهر البيانات أن الطفرة الاقتصادية القطرية كانت استثنائية في سرعتها. فبين عامي 1995 و2015، قفز الناتج المحلي الإجمالي من أقل من 20 مليار دولار إلى أكثر من 160 مليار دولار.
وضع هذا النمو، المدفوع بثروة الغاز والاستثمارات المرتبطة به، الدولة في موقع اقتصادي متقدم، لكنه في الوقت نفسه رفع من كثافة الانبعاثات للفرد، في وقت لا تتجاوز فيه مساهمة قطر في الانبعاثات العالمية نسبة 0.3%.
ضمن هذا التوازن الدقيق، برزت رؤية قطر الوطنية 2030 كإطار سياسي واقتصادي يسعى إلى المواءمة بين التنمية والاعتبارات البيئية. وفي عام 2021، أُطلقت خطة العمل الوطنية لتغير المناخ، واضعة هدف خفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري بنسبة 25% بحلول 2030، عبر تطبيقات صناعية وتكنولوجية في قطاعات الطاقة والنقل والصناعة الثقيلة.
الهيدروجين: رهان جيوطاقي على آسيا
يمثل الهيدروجين أحد أعمدة هذا التحول. فباعتبارها من كبار منتجي ومصدري الغاز الطبيعي المسال، تمتلك قطر قاعدة تشغيلية تسمح لها بالدخول إلى سوق الهيدروجين النظيف، خاصة في آسيا التي تستحوذ على نحو 80% من صادراتها من الغاز.
تعد البنية التحتية الحالية للغاز، من مرافق تسييل وتخزين ونقل، قابلة لإعادة التوظيف جزئياً في سلاسل الهيدروجين، ما يقلل كلفة الانتقال مقارنة بدول أخرى.
وتبرز الصين هنا كمثال دال. ففي 2022، أعلنت بكين خطتها طويلة الأمد لتطوير صناعة الهيدروجين بين 2021 و2035، متضمنة تشغيل 50 ألف مركبة بخلايا وقود الهيدروجين بحلول 2025، وتوسيع استخدامه في تخزين الطاقة وتوليد الكهرباء والصناعة.
يمنح هذا التوجه الآسيوي الموردين القادرين على توفير وقود منخفض الكربون فرصة استراتيجية في سوق يُتوقع أن يتسع خلال العقود المقبلة.
الأمونيا واحتجاز الكربون: من التجربة إلى التصدير
إلى جانب الهيدروجين، تتقدم الأمونيا منخفضة الكربون كمنتج وسيط يلعب دوراً محورياً في إزالة الكربون من قطاعات يصعب خفض انبعاثاتها، مثل الطيران والنقل البحري والصلب والأسمنت والكيماويات.
وفي هذا السياق، تستعد قطر للطاقة لتشغيل مصنع للأمونيا في مسيعيد خلال أبريل 2026، بطاقة إنتاجية أولية تبلغ 900 ألف طن سنوياً، مدعوماً بتقنية احتجاز وتخزين الكربون.
ويتضمن مشروع قافكو 7، الذي تصل طاقته الإنتاجية إلى 1.2 مليون طن سنوياً، وحدة لحقن وتخزين ثاني أكسيد الكربون بطاقة 1.5 مليون طن سنوياً، باستثمار يقدر بنحو 1.2 مليار دولار.
ومن المقرر تصدير إنتاج المصنع إلى عملاء دوليين، في خطوة تعكس انتقال المشاريع القطرية من مرحلة الاختبار إلى الاندماج في سلاسل الإمداد العالمية للمواد الكيميائية النظيفة.
هذا التوجه يعكس إدراكاً متزايداً بأن مستقبل الطاقة لن يُحسم بمصدر واحد، بل بمزيج متنوع قادر على تلبية الطلب الصناعي، وتقليص البصمة الكربونية، وضمان الاستقرار الاقتصادي.
وبينما يتجه العالم، وخصوصاً آسيا، نحو خيارات أقل انبعاثاً، تضع قطر نفسها لاعباً في معادلة تتجاوز حدودها الجغرافية، وتعيد رسم أدوار المنتجين في نظام طاقة عالمي يتغير بوتيرة متسارعة.






