في هشاشة الوعي واستقالة العقل
ليس المثقّف الوطواط توصيفًا أخلاقيًا بقدر ما هو تشخيص أنطولوجي لحالة وعي مأزومة؛ وعيٌ لا يسكن الضوء ولا يطيق الظلمة، يتدلّى بين السقف والأرض، يرى الأشياء مقلوبة، ويزعم امتلاك بصيرةٍ حادّة وهو عاجز عن الوقوف في موضعٍ أخلاقيٍّ واضح. إنّه مثقّف التردّد البنيوي، الذي يتغذّى على الغموض لا بوصفه أفقًا معرفيًا، بل كملاذٍ آمن من كلفة الموقف.
في مقابل هذا النموذج، يبرز النقد الرعاعي بوصفه الوجه الإجرائي لهذا التردّد: نقدٌ لا يشتبك مع البُنى، بل يرعى القطيع، يكتفي بتقويم السلوكيات السطحية، ويستبدل التفكيك بالتطمين، والسؤال بالتكرار. هو نقدٌ يهمس حيث يجب أن يصرخ، ويصمت حيث ينبغي أن يسمّي الأشياء بأسمائها. هكذا يتحوّل الناقد من فاعلٍ معرفي إلى راعٍ رمزيّ، مهمّته تهدئة الجماعة لا إيقاظها، وضبط الإيقاع لا كسره.
المثقّف الوطواط لا يعارض السلطة صراحة، ولا ينحاز إليها علنًا؛ إنّه يبرع في التموضع بينيًّا، حيث اللا موقف يُسوَّق بوصفه حكمة، والحياد يُقدَّم كفضيلة عليا. غير أنّ هذا الحياد ليس سوى استبطان للخوف، وتمثّل ناعم لمنطق الهيمنة. فالعقل الذي يخشى الخسارة الرمزية، يفقد تدريجيًا قدرته على المخاطرة الفكرية، ويستعيض عن النقد الجذري بلغةٍ مُعقّمة لا تجرح أحدًا ولا تُنقذ شيئًا.
أما النقد الرعاعي، فهو يتأسّس على منطق الإجماع لا الحقيقة، وعلى إرضاء الذائقة السائدة لا زعزعتها. إنّه نقدٌ يشتغل داخل الحدود المرسومة سلفًا، ويعيد إنتاج المسلّمات نفسها بأدوات لغوية جديدة. وبدل أن يكون النقد فعلَ كشف، يغدو طقسَ تبرير، وبدل أن يكون تمرينًا على الحرية، يتحوّل إلى تدريب على الطاعة المؤدّبة.
تكمن خطورة هذا النمط في أنّه لا يظهر كقمعٍ مباشر، بل كـ عقلانية زائفة. فهو لا يمنع السؤال، بل يُفرغه من حدّته؛ لا يصادر المفاهيم، بل يُدجّنها؛ لا يقتل المعنى، بل يُطيله حتى يشيخ. وهنا تتحقق أخطر أشكال الهيمنة: حين يشارك المثقّف نفسه في إنتاج شروط صمته، ويغدو شريكًا في تطبيع الرداءة الفكرية باسم الواقعية والتعقّل.
إنّ المثقّف الحقيقي لا يعيش في الكهوف المعلّقة، ولا يقتات على ظلال المواقف. إنّه من يختار الضوء مع ما فيه من انكشاف، ومن يغامر بالسؤال ولو كلّفه العزلة. فالنقد ليس وظيفة لغوية، بل موقف وجودي، والمثقف ليس وسيطًا بين القطيع والسلطة، بل ضميرًا قلقًا يرفض الرعي، ويصرّ على شقّ الدروب الوعرة نحو معنى أصدق للحرية والعقل.





