فتح: أمّ البدايات، صاحبة الطلقة الأولى، والتاريخ الفلسطيني الأوّل، واحد وستون عاما من الكفاح المثمر

د.صالح الشقباوي

لم تكن حركة فتح مجرّد تنظيم سياسي عابر في التاريخ الفلسطيني المعاصر، بل شكّلت لحظة تأسيسية أعادت صياغة الوجود الفلسطيني من جديد، وأعادت فلسطين إلى التاريخ بعد أن أُخرجت منه قسراً، وأعادت الشعب الفلسطيني من حالة اللجوء والانتظار إلى حالة الفعل، الثورة، والاشتباك مع المصير.
جاءت فتح في لحظة تاريخية كان فيها الفلسطيني مُجرّداً من الفعل السياسي، محكوماً بمنطق اللجوء، محصوراً في المخيم، ينتظر الإغاثة وقوت اليوم في طوابير الإعاشة، بعد نكبة حاولت أن تقتلع الإنسان الفلسطيني من أرضه، ومن تاريخه، ومن معناه. لم تكن المأساة فقدان الأرض فقط، بل فقدان الكيانية الوطنية، وتحويل فلسطين إلى “قضية إنسانية” بلا فاعل تاريخي.
هنا تحديداً وُلدت فتح، لا كحركة عسكرية فقط، بل كفكرة تاريخية كبرى: فكرة استعادة الفعل الفلسطيني. فالطلقة الأولى التي أطلقتها فتح لم تكن مجرد رصاصة في معركة، بل كانت إعلاناً عن عودة الفلسطيني إلى التاريخ، وعن انتقاله من موقع الضحية الصامتة إلى موقع الفاعل الذي يصنع مصيره بيده.
لقد أعادت فتح تعريف الفلسطيني، من لاجئ ينتظر الحلول الخارجية، إلى ثائر يحمل السلاح ويطالب بوطن ودولة وهوية. ومن خلال الكفاح المسلح في بداياتها، أعادت فتح الاعتبار لمفهوم النضال الوطني المستقل، وكسرت حالة الوصاية، وربطت القضية الفلسطينية بإرادة شعبها، لا بقرارات الآخرين.
الأهم من ذلك، أن فتح نجحت في إعادة الكيانية الوطنية الفلسطينية إلى معناها التاريخي والرمزي. فقد أعادت بناء الهوية الفلسطينية بوصفها هوية سياسية، ثقافية، وتاريخية، لا مجرد انتماء جغرافي مفقود. ومع صعود فتح، عادت فلسطين إلى الخرائط السياسية، وإلى الخطاب الدولي، وإلى الوعي العالمي، كقضية شعب يسعى للتحرر الوطني، لا كأثر جانبي لصراعات إقليمية.
كما أعادت فتح وصل الفلسطيني بأرضه، لا فقط بوصفها مساحة جغرافية، بل بوصفها معنى وجودياً ورمزياً. ففلسطين في فكر فتح ليست مجرد أرض محتلة، بل وطنٌ يُستعاد بالفعل، وبالتضحيات، وبإرادة الصمود. ومن هنا، لم يكن الكفاح المسلح غاية بحد ذاته، بل وسيلة لإعادة إنتاج المعنى الوطني، وكسر منطق النسيان الذي فُرض على فلسطين.
لقد أسست فتح لما يمكن تسميته “التاريخ الفلسطيني الأول” بعد النكبة؛ تاريخ يبدأ من الفعل لا من الانتظار، ومن الثورة لا من اللجوء، ومن المبادرة لا من التبعية. وبهذا المعنى، فإن فتح لم تُشعل فقط شرارة الثورة، بل أعادت كتابة السردية الفلسطينية من جديد.
ورغم كل التحولات، والانقسامات، والتحديات التي واجهتها الحركة لاحقاً، يبقى دور فتح التأسيسي حقيقة تاريخية لا يمكن تجاوزها أو إنكارها. فهي التي أعادت الشعب الفلسطيني إلى ذاته، وأعادت فلسطين إلى التاريخ، وأعادت للهوية الوطنية معناها، وللنضال شرعيته، وللشعب صوته.
إن فتح، في جوهرها، كانت وما زالت أمّ البدايات، وصاحبة اللحظة التي قرر فيها الفلسطيني أن يكون، بعد أن أُريد له ألا يكون.