بقلم ،: ابن شقبا
د.صالح الشقباوي
استاذ الفلسفة والعلوم الاجتماعية
جامعة بودواو وبوزريعة / الجزائر
تُعدّ القرى الفلسطينية قبل عام 1948 وحداتٍ تاريخية واجتماعية وحضارية متكاملة، شكّلت الأساس العميق للهوية الوطنية الفلسطينية. ومن بين هذه القرى، تبرز قرية شقبة الواقعة غرب رام الله، قضاء الرملة، كنموذجٍ فريد يجمع بين العمق الجغرافي، والتاريخي، والأثري، والديني، والإنساني. لا تمثل شقبة مجرد تجمع سكاني ريفي، بل تشكل فضاءً حضارياً ممتداً من عصور ما قبل التاريخ وصولاً إلى الحاضر، حاملاً ذاكرة جماعية متجذّرة في المكان والإنسان.
تهدف هذه الدراسة إلى تقديم قراءة أكاديمية شاملة لقرية شقبة قبل عام 1948، مع إبراز تطورها التاريخي، وبنيتها الاجتماعية، ودورها الحضاري، وانعكاسات النكبة على سكانها، وصولاً إلى إسهامات أبنائها العلمية المعاصرة في حفظ اسم القرية وهويتها.
أولاً: الموقع الجغرافي والطبيعة الطبوغرافية
تقع قرية شقبة على هضبة جبلية مميزة غرب مدينة رام الله، وتشرف على وادي شقبة ومغارتها التاريخية الشهيرة. وقد منحها هذا الموقع الجبلي طبيعة دفاعية وزراعية في آنٍ معاً، حيث امتزجت التضاريس الصخرية بالأراضي الخصبة الصالحة للزراعة.
تميّزت شقبة ببيئة طبيعية ملائمة لزراعة الزيتون، والتين، والصبر، وهي محاصيل ارتبطت عضوياً بالاقتصاد الريفي الفلسطيني وبالثقافة الغذائية والاجتماعية لأهل القرية. كما ساهم موقعها المتوسط بين عدد من القرى المجاورة في جعلها نقطة تفاعل اقتصادي واجتماعي في المنطقة.
ثانياً: التركيبة السكانية والاجتماعية
قبل عام 1948، كان مجتمع شقبة مجتمعاً ريفياً متماسكاً، يعتمد على الزراعة والتجارة البسيطة، وتسوده علاقات القرابة والتكافل الاجتماعي. وقد تشكل النسيج الاجتماعي للقرية من عدد من الحمائل والعشائر، أبرزها:
حمولة قدح
حمولة ثابت
حمولة المصري
حمولة شلش
لعبت هذه الحمائل دوراً محورياً في تنظيم الحياة الاجتماعية، وحل النزاعات، وحفظ العادات والتقاليد، وشكلت إطاراً جامعاً للهوية المحلية داخل القرية.
ثالثاً: شقبة والحضارة النطوفية – البعد الأثري
تكتسب قرية شقبة أهمية استثنائية في التاريخ الإنساني من خلال مغارة شقبة، التي تُعد من أقدم المواقع الأثرية في فلسطين، ويعود تاريخها إلى أكثر من 13 ألف سنة، أي إلى عصر الحضارة النطوفية.
تشير الدراسات الأثرية إلى أن وادي شقبة كان مركزاً حضارياً مهماً، لعب دوراً في انتشار الثقافة النطوفية إلى القرى والمناطق المجاورة مثل: شبتين، دير ب مشعل، عبود، قبية، رنتيس، نعلين، وبدروس.
ويؤكد هذا الامتداد أن شقبة لم تكن معزولة تاريخياً، بل كانت جزءاً من شبكة حضارية نشطة ساهمت في تطور المجتمعات البشرية الأولى في فلسطين.
رابعاً: شقبة في الذاكرة الدينية والتاريخية
تؤكد مصادر تاريخية وروايات متوارثة أن السيد المسيح عيسى عليه السلام (يسوع) مرّ بمنطقة شقبة وجلس في كهفها التاريخي أثناء رحلته من القدس إلى الناصرة. وتشير الروايات إلى أن أهل شقبة ناصروه والتفوا حوله وتبنّوا دعوته وشريعته، ما يمنح القرية بعداً دينياً وروحياً عميقاً.
هذا البعد يعزز من مكانة شقبة في الذاكرة الدينية الفلسطينية، ويؤكد أن فلسطين، وقراها، كانت فضاءً حياً للأحداث الدينية الكبرى، وليس مجرد مسرح جغرافي عابر.
خامساً: شقبة بعد النكبة – السكان والشتات
أدت نكبة عام 1948 إلى تشتيت جزء كبير من سكان شقبة، إلا أن القرية حافظت على وجودها السكاني. ويُقدّر عدد سكانها اليوم بنحو خمسة آلاف نسمة داخل القرية، إضافة إلى أكثر من أربعة آلاف نسمة في المنافي والشتات واللجوء.
ورغم التهجير، حافظ أبناء شقبة على ارتباطهم الوثيق بقريتهم، سواء من خلال الذاكرة، أو التسمية، أو التمسك بالهوية، وهو ما يعكس قوة الانتماء المكاني في الوعي الجمعي الفلسطيني.
سادساً: شقبة والعلم – الذاكرة الأكاديمية المعاصرة
تميّز أبناء شقبة في العصر الحديث بالتحصيل العلمي والمعرفي، وبرز من بينهم عدد كبير من الأكاديميين والدكاترة الذين حملوا اسم القرية في الوطن والمنافي، محافظين على هويتها وذاكرتها.
ويُعد الدكتور صالح الشقباوي من أبرز وجوهها الأكاديمية والعلمية والعسكرية، حيث:
يحمل رتبة لواء متقاعد
حاصل على أكثر من درجة دكتوراه في العلوم السياسية والاجتماعية
خريج جامعة الجزائر
خريج المدرسة العسكرية البلغارية العليا – فليكو ترنوفو
خريج أكاديمية شرشال لمختلف الأسلحة
كاتب وباحث، وله مؤلفات أكاديمية ومشاركات إعلامية ومقابلات تلفزيونية
إلى جانبه، برز العديد من الأكاديميين من عائلة شلش وغيرها من عائلات شقبة، الذين شكّلوا امتداداً معرفياً للقرية، وأسهموا في ترسيخ اسمها في الحقول العلمية والبحثية.
خاتمة
تمثل قرية شقبة نموذجاً فلسطينياً فريداً يجمع بين العمق الحضاري، والأصالة الاجتماعية، والذاكرة الدينية، والامتداد العلمي المعاصر. فمن مغارة تعود إلى الحضارة النطوفية، إلى مرور السيد المسيح عليه السلام، إلى نكبة التهجير، وصولاً إلى الحضور الأكاديمي لأبنائها في المنافي، ظلت شقبة حاضرة في التاريخ والذاكرة.
إن دراسة شقبة ليست توثيقاً لمكانٍ فحسب، بل هي تأكيد على أن القرية الفلسطينية هي وحدة حضارية متكاملة، لا تزول بزوال الجغرافيا، بل تبقى ما بقي الإنسان حاملاً لاسمها وذاكرتها وهويتها.





