منذ ما يقارب عقدًا من الزمن، دخل اليمن واحدة من أكثر الحروب تعقيدًا في تاريخه الحديث، حرب لم تقتصر على مواجهة داخلية أو صراع إقليمي تقليدي، بل تحوّلت تدريجيًا إلى ساحة اختبار لإعادة رسم خرائط النفوذ في المنطقة. وفي قلب هذا المشهد المضطرب، برز التحالف السعودي–الإماراتي كقوة مركزية تقود العمليات العسكرية والسياسية تحت لافتة واحدة، لكنها تخفي في عمقها رؤى متباينة وأهدافًا متناقضة. فبينما ظل الخطاب الرسمي يتحدث عن وحدة الصف وتطابق الأهداف، كانت الوقائع الميدانية تشير، بصمت متزايد، إلى تصدّعات بنيوية داخل هذا التحالف. اليوم، ومع تراجع المعارك المفتوحة وصعود مسارات التفاوض، بات هذا الصراع الصامت أكثر وضوحًا، وبدأت ملامحه تنعكس مباشرة على مستقبل اليمن ووحدته، وعلى طبيعة التحالفات العربية نفسها.
تحالف الضرورة… حين أخفت الحرب جذور التناقض
عند انطلاق العمليات العسكرية عام 2015، بدا التحالف السعودي–الإماراتي استجابةً سريعة لحدث مفصلي تمثل في سيطرة جماعة أنصار الله على صنعاء، وما اعتُبر آنذاك تهديدًا مباشرًا للتوازن الإقليمي. غير أن هذا التحرك المشترك، الذي وُصف بأنه تحالف ضرورة، لم يكن قائمًا على رؤية استراتيجية موحّدة بقدر ما كان التقاءً ظرفيًا لمخاوف مختلفة.
بالنسبة للسعودية، شكّل اليمن عمقًا أمنيًا لا يمكن التفريط فيه. فحدودها الجنوبية الطويلة، وحساسية موقعها في معادلة الصراع مع إيران، جعلت من الحرب مسألة أمن قومي من الدرجة الأولى. لذلك ركّزت الرياض على منع تشكّل كيان مسلح معادٍ على حدودها، ولو كان ذلك على حساب طول أمد الحرب وكلفتها.
في المقابل، دخلت الإمارات الحرب بعقلية مختلفة. فاليمن، في الحسابات الإماراتية، لم يكن فقط ساحة مواجهة مع خصم إقليمي، بل فرصة استراتيجية لإعادة التموضع في واحدة من أهم مناطق الملاحة العالمية. السيطرة على الموانئ، وتأمين خطوط التجارة، وبناء نفوذ طويل الأمد، كانت أهدافًا لا تقل أهمية عن الشعارات المعلنة.
هذا التباين لم يظهر فورًا إلى العلن، لكنه بدأ يتسلل عبر طبيعة الانتشار العسكري وتقاسم مناطق النفوذ. فبينما انخرطت القوات السعودية في جبهات استنزاف طويلة شمالًا، ركّزت الإمارات على الجنوب والساحل الغربي، حيث الحسم السريع والسيطرة النوعية. ويشير خبراء عسكريون إلى أن هذا التوزيع لم يكن عشوائيًا، بل يعكس اختلافًا في تعريف “النصر” لدى كل طرف.
ومع تعثر الحسم العسكري، تحوّل هذا الاختلاف إلى أزمة ثقة غير معلنة. فغياب قيادة موحدة، وتعدد مراكز القرار، جعلا التحالف أقرب إلى مظلة سياسية فضفاضة، تخفي تحتها مشاريع متنافسة أكثر مما توحّدها أهداف مشتركة.
الجنوب اليمني… الجغرافيا التي فجّرت الخلاف
لم يكن الجنوب اليمني مجرد مسرح عمليات ثانوي، بل تحوّل تدريجيًا إلى قلب الصراع السعودي–الإماراتي. فهنا، تلاقت الحسابات الاستراتيجية مع الهويات السياسية، وتفجّرت التناقضات التي لم يعد ممكنًا احتواؤها بالخطاب الدبلوماسي.
دعم الإمارات للمجلس الانتقالي الجنوبي شكّل نقطة التحول الأبرز. فهذا الكيان، الذي يرفع شعار استعادة دولة الجنوب، لم يخفِ يومًا تعارض مشروعه مع رؤية السعودية الداعمة – رسميًا – لوحدة اليمن. ومع ذلك، حظي بدعم سياسي وعسكري وأمني مكثف من أبوظبي، ما منحه قدرة فعلية على فرض نفسه لاعبًا رئيسيًا.
في عدن، ظهرت مفارقة لافتة: عاصمة مؤقتة بلا سيادة كاملة، وحكومة تعيش في ظل قوى محلية مسلحة تملك القرار الأمني والعسكري. المواجهات التي اندلعت بين قوات الحكومة والمجلس الانتقالي لم تكن حوادث معزولة، بل كانت تعبيرًا صريحًا عن صراع مشاريع داخل معسكر واحد.
من الناحية العسكرية، يرى خبراء أن الإمارات نجحت في بناء نموذج “القوة المحلية الوكيلة”، عبر تشكيل قوات مدربة وممولة، ذات انضباط عالٍ، لكنها خارج إطار الدولة. هذا النموذج منحها نفوذًا مستدامًا، لكنه في المقابل قوّض فكرة الدولة المركزية التي تسعى السعودية – نظريًا – إلى الحفاظ عليها.
اتفاق الرياض جاء كمحاولة لاحتواء الانفجار، لكنه اصطدم بحقيقة أن الأزمة أعمق من خلاف إداري أو أمني. فالمشكلة كانت، ولا تزال، سياسية بامتياز، تتعلق بشكل الدولة اليمنية المقبلة، وهو سؤال لم يكن التحالف نفسه متفقًا على إجابته.
اليمن بين الحسابات الإقليمية والمصالح الدولية
يتجاوز الصراع السعودي–الإماراتي في اليمن حدوده الثنائية، ليتداخل مع شبكة معقدة من المصالح الإقليمية والدولية. فالإمارات، التي وسّعت حضورها في القرن الإفريقي والبحر الأحمر، تعاملت مع اليمن كحلقة مركزية في مشروع نفوذ بحري–تجاري متكامل.
السيطرة على جزر استراتيجية مثل سقطرى وميون لم تكن مجرد خطوة أمنية، بل حملت أبعادًا جيواستراتيجية واضحة، مرتبطة بالملاحة الدولية والتوازنات البحرية. هذا التمدد، وإن جرى تحت مظلة التحالف، أثار تساؤلات متزايدة حول حدود الشراكة وأهدافها الفعلية.
في المقابل، وجدت السعودية نفسها أمام واقع دولي متغيّر. فتصاعد الانتقادات الحقوقية، وتزايد الضغوط السياسية في العواصم الغربية، دفعا الرياض إلى تبني خطاب أكثر ميلاً للحلول السياسية، والسعي إلى تخفيف التصعيد العسكري، خاصة بعد سنوات من الاستنزاف.
هذا التباين في التموضع جعل من اليمن ساحة إدارة تناقضات داخل التحالف نفسه. ويشير محللون إلى أن أبوظبي استفادت من هذا الوضع لتكريس نفوذها الميداني، في وقت كانت فيه الرياض منشغلة بإدارة كلفة الحرب سياسيًا ودبلوماسيًا.
الدور الغربي زاد المشهد تعقيدًا. فبينما أعلنت الولايات المتحدة وبريطانيا دعم وحدة اليمن، تعاملتا ببراغماتية مع الوقائع التي فرضتها الإمارات، انطلاقًا من اعتبارات أمن الملاحة الدولية، ما أضعف قدرة السعودية على فرض رؤيتها داخل التحالف.
الانعكاسات والسيناريوهات… اليمن كخاسر الأكبر
أدّى الصراع الصامت داخل التحالف إلى إضعاف الجبهة المناهضة للحوثيين، ومنح هذه الجماعة هامشًا أوسع للمناورة السياسية والعسكرية. فغياب رؤية موحدة، وتعدد مراكز القرار، جعلا من أي حسم عسكري أو تسوية سياسية أمرًا بالغ التعقيد.
على المستوى السياسي، تراجعت مكانة الحكومة اليمنية، وتحولت تدريجيًا إلى طرف محدود التأثير، ما فتح الباب أمام مشاريع موازية تهدد وحدة البلاد. هذا الواقع يعمّق الانقسام، ويجعل أي مسار سلام مستقبلي مرهونًا بتفاهمات إقليمية أكثر منه بإرادة يمنية خالصة.
السعودية، من جهتها، تواجه معضلة استراتيجية: فإما القبول بواقع نفوذ إماراتي متجذّر في الجنوب، أو محاولة إعادة ضبط العلاقة بما يحمله ذلك من مخاطر سياسية وربما أمنية. أما الإمارات، فتبدو ماضية في سياسة تثبيت المكاسب، مع الحفاظ على خطاب دبلوماسي مرن يجنّبها الصدام المباشر.
السيناريو الأكثر ترجيحًا، وفق مراكز أبحاث إقليمية، هو استمرار حالة “اللا-حسم”: تعاون تكتيكي في بعض الملفات، وصراع نفوذ منخفض الحدة في ملفات أخرى. غير أن هذا السيناريو يعني عمليًا استمرار معاناة اليمن، وبقاءه ساحة مفتوحة لتصفية الحسابات.
في الخلاصة، لم يعد اليمن مجرد ضحية حرب، بل ضحية تحالف متصدّع، تتنازعه مشاريع متنافسة. وفي ظل غياب رؤية جامعة، يبقى المستقبل مفتوحًا على مزيد من التعقيد، فيما يدفع اليمنيون وحدهم ثمن صراع لم يكونوا يومًا أصحاب قراره.





