الامين العام للجبهة العربية الفلسطينية
لم تعد فلسطين اليوم مجرد ساحة صراع مفتوح، ولا بات ما يجري على أرضها قابلاً للفهم ضمن حدود المواجهة التقليدية مع الاحتلال، لأن ما نشهده يتجاوز ذلك بكثير ليكشف عن مشروع صهيوني شامل، متدرّج، متعدد الساحات، يستهدف تصفية القضية الفلسطينية من جهة، وإعادة تشكيل البيئة العربية والإقليمية من جهة أخرى، بما يضمن تفوق الاحتلال واستدامة هيمنته بوصفه القوة المركزية الوظيفية في المنطقة. حرب الإبادة المفتوحة في قطاع غزة ليست إلا التعبير الأكثر دموية ووضوحاً عن هذا المشروع، لكنها ليست التعبير الوحيد، ولا حتى الأخير، بل تتكامل مع حرب استيطان شاملة في الضفة الغربية، وتهويد ممنهج للقدس، وعدوان متواصل على لبنان وسوريا، واختراق منظم للقرن الإفريقي والبحر الأحمر، في سياق واحد لا ينفصل بعضه عن بعض.
في غزة، يُدار القتل على مدار الساعة باعتباره سياسة، لا نتيجة اشتباك. التدمير الشامل للبنية السكنية، واستهداف الإنسان في تفاصيل حياته اليومية، وتجويعه، ومحاصرته، وتحويل القطاع إلى مساحة غير صالحة للحياة، ليس فعلاً انتقامياً عشوائياً، بل محاولة واعية لإحداث كسر تاريخي في الوعي الفلسطيني، ودفع الناس إلى حافة اليأس أو الهجرة، وفرض معادلة جديدة عنوانها: إما الخضوع لشروط الاحتلال، أو الفناء البطيء. وفي الوقت ذاته، تُستخدم هذه الحرب لإعادة تعريف غزة سياسياً، عبر مشاريع مطروحة لإدارتها أمنياً أو دولياً، بما يجرّد الشعب الفلسطيني من حقه في السيادة والقرار، ويحوّل قضيته من قضية تحرر وطني إلى ملف إنساني إغاثي.
وفي الضفة الغربية، تُستكمل الجريمة بأدوات أخرى، أقل صخباً في الإعلام، لكنها لا تقل خطورة في النتائج. الاستيطان لم يعد مجرد توسع جغرافي، بل أصبح مشروع اقتلاع شامل، تُستخدم فيه عصابات المستوطنين كذراع تنفيذية، تحت حماية الجيش وغطاء الحكومة. القرى تُحاصر، الأراضي تُصادر، الناس تُرهب، والحياة اليومية تُدفع نحو الاستحالة، في محاولة لدفع الفلسطيني إلى الرحيل بصمت، أو البقاء بلا أفق. القدس، في قلب هذا المشهد، تتعرض لعملية تفريغ متواصلة، تستهدف طمس هويتها العربية والإسلامية والمسيحية، وتحويلها إلى عاصمة “نقية” لمشروع استعماري ديني، يضرب بعرض الحائط كل القوانين والقرارات الدولية.
لكن الأخطر في اللحظة الراهنة أن هذه السياسات لم تعد محصورة داخل فلسطين. العدوان الصهيوني على لبنان وسوريا يكشف بوضوح أن أهداف الاحتلال تتجاوز فكرة الردع أو الدفاع، إلى السعي لفرض وقائع استراتيجية جديدة في المشرق العربي. في لبنان، يسعى الاحتلال إلى كسر معادلات القوة التي تشكلت خلال السنوات الماضية، وإعادة إنتاج واقع يسمح له بالتحرك عسكرياً دون كلفة، وإضعاف الدولة والمجتمع معاً، ودفع البلاد نحو مزيد من الانقسام والاستنزاف. وفي سوريا، تستمر الضربات المنظمة على البنية العسكرية والاقتصادية، ليس فقط لمنع التعافي، بل لإبقاء الدولة السورية في حالة إنهاك دائم، وإخراجها من معادلات الإقليم، وقطع أي تواصل جغرافي أو سياسي يمكن أن يشكل عمقاً استراتيجياً للقضية الفلسطينية.
وفي موازاة ذلك، يتقدم المشروع الصهيوني جنوباً، نحو القرن الإفريقي والبحر الأحمر، حيث لا يمكن قراءة الاعتراف بإقليم أرض الصومال كدولة مستقلة خارج هذا السياق. هذا الاعتراف ليس خطوة دبلوماسية معزولة، بل حلقة في مشروع اختراق استراتيجي يهدف إلى السيطرة على الممرات البحرية، وتأمين حضور مباشر على ضفاف البحر الأحمر وباب المندب، وتطويق العمق العربي من خاصرته الإفريقية. من هناك، يسعى الاحتلال إلى بناء شبكة علاقات أمنية واقتصادية، تُستخدم لإعادة ترتيب التوازنات، وخلق نقاط ضغط جديدة على الدول العربية الكبرى، وإشغالها بتحديات أمنية وسياسية مركبة، تستنزف قدراتها وتحدّ من دورها القومي.
وفي هذا الإطار، لا يمكن تجاهل دور بعض القوى الإقليمية التي اختارت أن تكون جسراً لهذا التمدد، عبر الانخراط في مشاريع تفتيت، أو دعم كيانات انفصالية، أو لعب أدوار تخريبية ناعمة تخدم، في جوهرها، المصالح الإسرائيلية، حتى وإن غُلّفت بخطاب التنمية أو الشراكات الاقتصادية. الهدف النهائي من هذه الأدوار هو خلق طوق من الأزمات حول مصر والسعودية، واستنزافهما سياسياً وأمنياً، ومنعهما من لعب دور مركزي في إعادة بناء موقف عربي قادر على مواجهة المشروع الصهيوني. فإضعاف العمق العربي، وتفكيك ساحاته، شرط أساسي لتمرير تصفية القضية الفلسطينية دون كلفة استراتيجية كبرى.
أما الولايات المتحدة، فهي الشريك الكامل في هذا المشروع، وليست مجرد داعم سياسي. الغطاء العسكري، والحماية الدبلوماسية، وتعطيل أدوات المحاسبة الدولية، كلها تؤكد أن ما يجري هو سياسة متعمدة، ترى في “إسرائيل” أداة مركزية لإدارة المنطقة، ولو على حساب الاستقرار، والقانون الدولي، وحقوق الشعوب. هذا الانحياز الفج لم يعد خافياً، لكنه في الوقت ذاته يفرض على الفلسطينيين والعرب مسؤولية تاريخية في إعادة تعريف أدوات المواجهة.
إن مواجهة هذا المشروع لا يمكن أن تتم بردود فعل متفرقة، ولا بخطابات عاطفية، بل تتطلب رؤية شاملة واستراتيجية طويلة النفس. فلسطينياً، فإن المدخل الأول هو استعادة الوحدة الوطنية على أساس برنامج سياسي تحرري واضح، يعيد الاعتبار لمنظمة التحرير الفلسطينية بوصفها الممثل الشرعي والجامع، ويُنهي حالة التآكل الداخلي التي أضعفت الموقف الفلسطيني. المطلوب شراكة حقيقية، وقرار وطني مستقل، واستثمار كل أدوات النضال المشروعة، السياسية والقانونية والدبلوماسية والشعبية، في معركة طويلة مع مشروع استعماري لا يفهم إلا لغة التوازنات.
وعربياً، فإن اللحظة الراهنة تفرض استعادة البعد القومي للقضية الفلسطينية، ليس كشعار، بل كحاجة أمنية واستراتيجية. فلسطين ليست قضية تضامن أخلاقي فقط، بل هي خط الدفاع الأول عن الأمن القومي العربي. وأي وهم بإمكانية النجاة الفردية، أو الاحتماء بالحياد، أو شراء الوقت عبر الصفقات، هو وهم قاتل، أثبتت التجربة أنه لا يحمي أحداً. المطلوب موقف عربي يعيد الاعتبار لمفهوم المصالح المشتركة، ويرفض التفتيت، ويواجه مشاريع الاختراق، ويعيد توجيه البوصلة نحو الخطر الحقيقي.
نحن أمام لحظة تاريخية فارقة، يُراد فيها إعادة رسم خرائط المنطقة على أنقاض فلسطين، وتحويل الإبادة إلى أداة سياسية، والتفتيت إلى قدر. والرد الوحيد الممكن على ذلك هو وعي بحجم المعركة، وإرادة صلبة، وخطاب سياسي مسؤول، لا يساوم على الحقوق، ولا يهرب من التحديات، ويعيد الاعتبار لمعنى النضال الوطني والقومي في زمن يحاول فيه المشروع الصهيوني أن يفرض نفسه قدراً نهائياً. هذا القدر يمكن كسره، إذا امتلكنا وضوح الرؤية، ووحدة الموقف، وشجاعة القرار.








