PayPal الأمريكية تحظر الفلسطينيين

السياسي – داخل أحد المقاهي (الكافيهات) بمخيم النصيرات وعلى طاولة بلاستيكية وكراسي بيضاء تجلس آلاء المدهون (29عامًا) أمام شاشة حاسوبها الشخصي لإطلاق حملة تسويقية إلكترونية لأحد عملائها في المملكة العربية السعودية، بعدما شاهد أعمالها ونتائج حملاتها التسويقية على شبكة (LinkedIn) المشهورة في التوظيف المهني، ووقع الاختيار عليها من بين آلاف الملفات الشخصية للمسوقين الإلكترونيين حول العالم.
تُتابع آلاء بعينيها، نتائج الحملة التسويقية على شاشة الحاسوب فيما تخطف أناملها ورقة بيضاء من حقيبتها وتجري معاملة حسابية على الورقة للمبلغ الذي ستحصل عليه، بعدما حظرت شركة بي-بال (PayPal) الأمريكية حسابها المربوط بالمنصات الرقمية عبر منصات العمل الحرّ، أثناء حرب الإبادة لكون مكان إقامتها مدينة غزَّة.

بنبرة غضب وتنهيدة مطولة تُحدثنا آلاء “بعد الخصم الكليّ من المبلغ و التحويل من السعودية إلى أحد المكاتب المصرفية في قطاع غزَّة وخصم العمولة التي تتجاوز 50% واستلام المبلغ كاش باليد، لا أستطيع أن أجني ثمار جزء من تعبي في يومي الشاق هذا، بعدما كنت أحصل على المبلغ بكل سهولة ويسر بتحويله على بي-بال (PayPal) ومن ثم إلى حسابي البنكي واستلامه بدون خصم عمولة باهضة كما اليوم!”

آلاء واحدة من آلاف الفلسطينيين في قطاع غزّة والضفة الغربية، أغلقت و حظرت منصة ”بي-بال” الأمريكية حساباتهن خلال حرب الإبادة مُنذ السابع من أكتوبر/تشرين أول 2023، ولم ينفك الحظر عنهن حتى اللحظة!
تضع آلاء يدها فوق بعضها البعض، تهمس ببطئ “دُرست العلاج الطبيعي وحصدت الأولى على الكلية بمرتبة امتياز، لكن لم يشفع لي تفوقي في حصولي على فرصة عمل. وقفت على طابور البطالة ومعاناة الخرجيات عدّة سنوات، من ثم توجهت لتعلم مهارة جديدة واخترت التسويق الرقمي الإلكتروني، وسرعان ما حلت بديلًا عن دراستي الجامعية وتلقيت العديد من الدورات في تطويرها وصقلها وصولًا إلى درجة من الاحترافية مكنتني من التواصل مع زبائن وعملاء من دول الخليج العربي و بدأت أحصد عائد مادي مُجزي يساندني أنا وعائلتي”
عانى الجيل الشبابي الفلسطيني في قطاع غزّة، قبيل حرب الإبادة الجماعية المستمرة منذ عامين، من ارتفاع نسبة البطالة بفعل الحصار المفروض على القطاع منذ العام 2006 وحتى الآن ما دفع الكثيرين منهم إلى البحث عن العمل خارج القطاع، وعبر منصات التوظيف للعمل الحر، كمصدر دخل أساسي.
تكتم المسوقة الرقمية غيظها لكن قسمات وجهها الحزين تشاركها الألم ذاته ” خلال حرب الإبادة، نزحت من بيتنا في شمال غزَّة ولم أستطع أن أهرب إلا بحاسوبي الشخصي وهاتفي المحمول فقط، وتركت جميع أغراضي في البيت الذي دمره الاحتلال الإسرائيلي في بداية الحرب، ونزحنا جنوب القطاع”
تصمت آلاء وتضع يدها على رأسها وتلتفت يمينًا ويسارًا وتستكمل” عشت رحلة نزوح شاقة، عشتها داخل الخيام التي لا تقي من حرّ الصيف و برد الشتاء، وخلالها فقدت عملي على منصات العمل الحرّ، و تفاجأت بحظر حسابي على منصة PayPal بي بال الأمريكية ”
“في النزوح فقدت بيتي وعملي لمدة خمسة شهور بسبب انقطاع الانترنت و الكهرباء، رغم كثرة تواصل العملاء والمؤسسات لاستكمال العمل لكن الظروف كانت أقوى وأقسى. من ثم قررت مواجهة الصعوبات والعودة إلى العمل، بالمشي لمسافات طويلة للبحث عن مساحة توفر الكهرياء والانترنت؛ تعثرت بمساحة عمل أدفع لها شهريًا 150 دولار مقابل خط الإنترنت والكهرباء، وحتى بعد حظر منصة بي بال حسابي أحاول إيجاد البدائل المُكلفة” تقول آلاء .
يستخدم العديد من المستقلين أصحاب العمل الحر في قطاع غزّة منصة “PayPal” لتلقي المدفوعات من العملاء والمؤسسات الدولية، لتوفيرها الحماية للبائعين ولسهولة ربطها بمنصات العمل الحر التي يعملون عليها.
تعود آلاء بذاكرتها للوراء قليلًا” واجهت سياسات متشددة من البنك على استقبال حوالات باي بال، تمثل بتحفظ على حسابي لمدة شهر وحرمني من استقابل راتبي، وكنت أتواصل يومًيا مع البنك، بعدها رفع البنك التحفظ لكنه قيدني باستلام مبلغ محدد لا يكفي تكاليف الحياة و المعيشة الباهظة في الحرب في ظل العمولة الجنونية والسيولة ”
تستكمل المسوقة الرقمية” قبل حرب الإبادة بعدَّة أعوام، كان من السهل إنشاء حساب على منصة بي بال وإدخال البيانات لكن خلال حرب الإبادة مُنع الغزّيون و أصبح مستحيلاً إنشاء حسابات جديدة تساندهم في أزمة استقبال الحوالات لكن حسابي الذي قمت بانشائه قبل الحرب مكنني من استخدامه فترة قصيرة قبل تقيده بعد رفع الأوراق الثبوتية التي تثبت أن غزَّة مكان سكني ”

قبل حرب الإبادة على غزَّة، طالب 11 عضوًا في الكونجرس الأميركي شركة بي-بال PayPal الأميركية، إنهاء الحظر المفروض على التعامل مع الفلسطينيين في الأراضي المحتلة في الوقت الذي تسمح فيه الشركة المصرفية للمستوطنين باستخدام منصة الدفع الرقمية، ولم تشرح الشركة علنًا سبب استثنائها للفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة في تقديم الخدمات المالية لهم.
صعوبات آلاء تتشابه معاناة آلاء مع الشاب العشريني محمد سماره، الذي يسير مسافة 2 كيلو متر، ليصل إلى الخيمة البيضاء داخل مدينة الزوايدة وسط قطاع غزَّة، ليجلس على طاولة تضم المستقلين العاملين عن بُعد، سرعان ما يفتح حاسوبه المحمول ويبدأ بالرد على العملاء الذين تواصلوا معه عبر منصات العمل الحر و التواصل الإجتماعي.
يحدثنا محمد وعيناه تتانمش مشتتين تراقبان شاشة اللابتوب المفتوحة على عدّة نوافذ: “ما قبل حرب الإبادة عملت في التداول، وقمت بتخصيص وقت أيضًا لمنصات العمل الحر، وكنت أجني العائد المادي بكل سهولة من خلال ربط المنصات بحسابي على منصة بي بال والتحويل على حسابي البنكي في بنك فلسطين واستلام المبلغ المالي،عبر ماكنات الصراف الآلي لأفرع البنك المتنوعة، لكن في بداية الحرب تفاجأت بمنع منصة باي بال الفلسطينيين من إنشاء حسابات باي بال حيث قمت بإنشاءحساب و تم حظره. بعد عدّة أيام كررت المحاولة دون نتيجة ”
يتنهد الشاب العشريني ويقول” لو حظرت منصة بي بال انشاء الحسابات قبل حرب الإبادة، لكانت الصدمة أخف لكن في الحرب النزوح فالأمر بالغ الصعوبة،حين نزحت ثلاث مرات برفقة زوجتي، حاولنا تدبر الأمور المالية من أجل الاستمرار في الحياة وبذلت ما في وسعي من تواصل ومحاولات منها استشارة ومحادثة أصدقائي الذين قدموا شكوى في المنصة و مروا بالتجربة مثلي لكن دون جدوى”
سألته “ما هي البدائل التي اتخذتها ؟” يُجيب محمد بنبرة غضب حازمة “يُقيم شقيقي في الأردن، وقمت بتحويل الحوالات المالية من العملاء على حسابه في ويسترن يونيون في الأردن، لكن المبالغ المالية في منصات العمل الحر ابقيتها كما هي لحين انتهاء حرب الإبادة، وحتى هذه اللحظة لم يطرأ أي جديد وتوضيح من منصة بي بال الأمريكة التي أظهرت عنصريتها نحونا كفلسطينيين، وفرضها عقابًا جماعيًا أثر على مُجمل تفاصيل حياتنا وعملنا.
يستكمل سماره “حالي كحال العديد من الشاب والشابات في قطاع غزَّة، حاولت البحث عن بدائل، فقمت بفتح نقطة شحن للهواتف” وهي ” مهنة جديدة أفرزتها مرارة الحرب حيث نقوم بشحن الهواتف بألواح الطاقة الشمسية الناجية من آثار القصف مقابل شيكل واحد، لكن بعدما شن الاحتلال الإسرائيلي سلسة من الهجمات الجوية ومهد لدخول بريّ للمنطقة، قمت ببيع بعض ألواح الطاقة الشمسية التي لم أستطع حملها ومن ثم نزحت بعدها وخسرت مشروعي الذي كنت أعتاش منه أنا وأسرتي”
بينما يشهد العالم العربي والغربي طفرة، متقدمة في المعاملات الرقمية و تسهيلات الدفع الإلكتروني يمنع الفلسطينيون من الوصول إلى أبسط حقوقهم من حساباتهم المالية .
“زادت المواجهة المالية في حرب الإبادة على الفلسطينيين في قطاع غزَّة، من تقيد منصة بي بال الأمريكية، و وسائط الدفع المالي الأخرى، حيث قاموا بحظر وإيقاف الحسابات الفلسطينية وخصوصًا الأفراد الذين يعملون عن بُعد، وهو ما يندرج في سياق الحرب المالية إلى جانب الحرب العسكرية على قطاع غزَّة وسكانها وهو جزء من التضيق ولحصار المالي، المفروض على القطاع من سنوات طويلة قبل الحرب وزادت تعقيدًا خلال حرب الإبادة ” يقول الخبير بالشأن الاقتصادي محمد أبو جياب.
مضيفًا” القيود والإغلاقات التي نفذتها بي بال بحق الفلسطينين في قطاع غزَّة، وخلال حرب الإبادة أدت إلى انتكاسات كبيرة على العاملين والمتعاملين مع المنصة وخصوصًا العاملين عن بعد عبر منصات العمل الحُر ، بعدما نجحوا بعناء كبير من خلق فرصهم بعد عدَّة سنوات من وقوفهم على طابور البطالة ”

يستكمل أبو جياب “فقد العديد من المستقلين العاملين عن بُعد أموالهم والبعض الآخر لا يستطيع تحصيل أمواله بسبب التضيق المفروض وبات البعض لا يُقدم على تنفيذ الأعمال للمتعاقدين مع الخارج، بالإضافة لغياب وسائط التحويل المالي، التي أنعكست تاركة آثارها السلبية الكبيرة، وبات العمل والحصول على النقود يعرض الشخص لعملية ابتزاز في الحصول على النقود مقابل عملهم.
يشير أبو جياب إلى أن الاحصائيات المحلية غير متوفرة، لكن يمكن الاستدلال به بها من خلال عن عدد الحسابات الفلسطينية التي تعرضت للحظر والإغلاق.
يختتم الخبير الاقتصادي حديثه “حظر بي بال الأمريكية والوسائط المالية الأخرى للحسابات الفلسطينية،”شكل خسارة اقتصادية عامة وليس فقط خاصة بالمتعامل ومن يتلقى الأموال، هناك خسارة اقتصادية للبلد والأشخاص ونقص في السيولة، مما يساهم في تعزيز الأزمة الإقتصادية “