عمر حلمي الغول
العلاقات الأميركية الإسرائيلية علاقات استراتيجية وعضوية، لا تتأثر بالتباينات والاختلافات البينية بين القيادات المتعاقبة في الإدارات الأميركية والحكومات الإسرائيلية، وبروز اجتهادات في ملفات تكتيكية لا تؤثر على عمق العلاقات بين السيد والمأجور، ويتم تجاوزها عبر القنوات والتشابكات المتعددة، ويبقى الناظم للروابط الاستراتيجية ثابت طالما بقيت دولة إسرائيل من منظور المصالح الحيوية للولايات المتحدة ضرورة لحمايتها، وحاجة لتعزيز نفوذها في إقليم الشرق الأوسط، او لفرضية لجوء حكومة إسرائيلية ما في لحظة انتشاء، واعتقاد في أوساط مركز القرار بضرورة الابتعاد عن سطوة السيد الأميركي، والانقلاب على الحليف الاستراتيجي، واستبداله بحليف جديد، عندئذ تتغير المعادلة، وينتفي الثابت ليصبح متحولا ومتحركا وتكتيكيا، هذا ان بقيت علاقات بين الحكومتين، وان بقيت إسرائيل على قيد الحياة.
لكن حتى اللحظة الراهنة وارتباطا بما تقدم، هناك مستويين ترتكز عليها العلاقات بين البلدين، الأول البعد الثابت والاستراتيجي العضوي بينهما، الثاني المتحول والمتحرك نتاج وجود اجتهادات وتعارضات بينية في ملف او اكثر من ملف، وهذا المستوى يبقى تحت السيطرة، ولا يؤثر على المستوى الأول. لان الأهداف العميقة والاساسية تحد من اية انعكاسات سلبية بين البلدين، ولا تسمح بمضاعفتها او اتساعها.
واذا نظرنا الى الاجتهادات البينية بين الرئيس الأميركي، جو بايدن ورئيس الوزراء الإسرائيلي التي برزت بشكل جلي الأسبوع الماضي حول زمن وإدارة حرب الإبادة على قطاع غزة، ومستقبل المحافظات الجنوبية في اليوم التالي للحرب، فهي ليست وليدة الامس القريب. لا سيما وان العلاقات المتوترة بين الإدارات الديمقراطية وحكومات نتنياهو المتعاقبة تعود لزمن إدارة الرئيس الأسبق أوباما، حيث تجاوز نتنياهو السقف في الإساءة للرئيس الرابع والأربعين للولايات المتحدة وادارته، حتى انه لم يستقبل نائب الرئيس بايدن عام 2016 عندما زار إسرائيل، ولهذا رد الرئيس الحالي الصفعة لرئيس الوزراء الإسرائيلي مع عودته للحكم نهاية عام 2022 بقيادة الحكومة السادسة، ولم يستقبله في البيت الأبيض طيلة تسعة شهور، وكان استقباله الأول له على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر الماضي.
لكن عندما تعرضت إسرائيل لضربة قاصمة في السابع من أكتوبر الماضي، وباتت الدولة العبرية في خطر حقيقي قفز الرئيس السادس والأربعين عن كل الخلافات، وحضر شخصيا لإسرائيل والتقى رئيس الحكومة السادسة بعد عشرة أيام من السبت الإسرائيلي الاسود، ليس هذا فحسب، بل انه وادارته قادوا دفة الحرب، وارسل فورا وزير خارجيته اليهودي، بلينكن وحاملات طائراته وبوارجه وجنوده ودفع بجسر جوي عسكري لإنقاذ إسرائيل من الانهيار فورا. لان الامر يتعلق بمستقبل الدولة العبرية الوظيفية، وليس بنتنياهو شخصيا غير المرغوب به ديمقراطيا.
واذا قرأنا بيان نتنياهو السابق على تصريحات الرئيس بايدن يوم الثلاثاء الماضي الموافق 12 ديسمبر الحالي امام داعمي حملته الانتخابية وجمع التبرعات للحزب الديمقراطي، نلحظ بروز الخلافات مجددا بينهما بشأن حرب الإبادة على فلسطين عموما وقطاع غزة خصوصا، حيث اكد رئيس حكومة الحرب الإسرائيلية رفضه للدولة الفلسطينية من حيث المبدأ، ورفضه لاتفاقات “أوسلو” التي قتلها ودفنها في حكومته الأولى عام 1996، ويرفض عودة السلطة الفلسطينية لادارة المحافظات الجنوبية، واوغل بعيدا في غيه وغطرسته بما حمله بيانه، الذي اكد فيه، ان الصدام المستقبلي هو مع الأجهزة الأمنية الفلسطينية، بهدف استحضار اجتياح شارون عام 2002 للضفة الفلسطينية، ومؤكدا على طابع الحرب الدينية، وادعى انه لم يذعن مطلقا لمقترحات بايدن وادارته، التي تتناقض مع رؤيته الاستراتيجية للصراع مع الفلسطينيين، حتى انه غمز من قناة رئيس الوزراء الأول، ديفيد بن غوريون، الذي أوقف الحرب عام 1956 (العدوان الثلاثي على مصر).
وفي ذات اليوم دعى ساكن البيت الابيض رئيس وزراء إسرائيل الى إعادة نظر في تركيبة حكومته، وضرورة الانتباه للرأي العام العالمي الذي أخذ بالانقلاب ضد إسرائيل، ودعاه الى التوقف عن اطلاق الصواريخ والقائف العشوائية، وتقنين عمليات الاستهداف للتخفيف من قتل المدنيين الفلسطينيين، التي تزيد من سخط وغضب الرأي العام الأميركي والعالمي. وكان بليكن يوم الخميس الموافق السابع من ديسمبر الحالي، قال امام الكابينيت الإسرائيلي لم يعد امامنا متسع من الوقت، وهناك ضغوط دولية ورأي عام عالمي منحاز للفلسطينيين، ومضاد لإسرائيل وأميركا على حد سواء، الامر الذي يدعونا مليا لتحديد زمن الحرب قبل نهاية الشهر الحالي، ونحن قد لا نستطيع استخدام حق النقض الفيتو لاحقا للحؤول دون وقف الحرب على غزة، وهذا ما عاد كرره الرئيس بايدن وأركان ادارته. كما اكدت الإدارة على لسان كل اقطابها بضرورة عودة السلطة الفلسطينية “المتجددة” للقطاع، ورفضت وجود مناطق عازلة في غزة، او تهجير السكان الفلسطينيين قسريا. وبغض النظر عن مصداقية الإدارة الأميركية من عدمها، فان الموقف المعلن يكشف عن نزولها عن شجرة الأهداف النتنياهوية، والابتعاد النسبي عنها، تفاديا لمضاعفة سخط الرأي العام الأميركي عليها، ولتعزيز مكانة الرئيس الأميركي في الانتخابات الأميركية القادمة نوفمبر 2024، وأيضا لحماية تحالفاتها العربية والإقليمية من اية انعكاسات سلبية.
مع ذلك تمظهر الخلاف بين الإدارة وحكومة الحرب لن يمس بالابعاد الاستراتيجية الناظمة للعلاقات الأميركية الإسرائيلية، دون تخلي الإدارة عن لي ذراع بنيامين نتنياهو، وانزاله طوعا او مرغما عن شجرة حساباته واجندته الخاصة ليبقى على كرسي الحكم، والمستقبل المنظور كفيل بحسم القراءات المختلفة لابعاد الخلافات بين الرجلين.
