حين تصير الكتابة خيانة… والنقد طعنة في الظهر: قراءة في فوضى الخطاب وتكلّس الذائقة

بن معمر الحاج عيسى

في زمنٍ تتهاوى فيه المعايير وتسقط فيه اللغة من عليائها إلى درك الابتذال، تتسرب الكلمات على ألسنة المهرّجين كما تتسرب الدماء من خاصرة وطن جريح، وينهار المعنى في زحمة الضجيج الذي يسمونه كتابة. وما بين هذا الركام اللفظيّ المأزوم، تخرج إلينا أقلامٌ تظن نفسها نجوما في سماء الأدب، وهي لا تتقن سوى الحفر في ظلام اللغة، لا لترى النور، بل لتدفن فيه ما تبقى من ذائقة الناس. لقد أضحت الكتابة مشروعا بلا روح، والنقد زينةً مشوّهة في أعراس الرداءة، حيث تُصنع المعاني كما تُصنع الأحذية: على مقاس السوق، وبما يناسب المزاج المريض للمرحلة. نحن لا نعيش أزمة نص فحسب، بل نعيش مأتما للوعي النقديّ، إذ صار الناقد تاجر كلمات، ووسيط مصالح، وموظفا عند المموّل أو الناشر أو اللوبي الثقافيّ الذي يوزّع الأضواء ويمنح الجوائز لمن يكتب وفق أهوائه. أيّ خيانة هذه حين يتحول النقد إلى فعل تواطؤ؟ أي جريمة حين يصبح الصمت عن الرداءة ضربا من ضروب اللباقة؟ ليس الصمت حكمة في زمان كهذا، بل شراكة كاملة في الجريمة. فحين يعلو صوت الرديء، ويُهمش الجميل، وحين يتصدر المشهد الأدبي من لا يجيد تركيب جملة مفيدة، يصبح الصمت عارا والسكوت خيانة، ويغدو النقد مقاومة لا هواية. لكن، كيف نمارس هذا النقد في مناخ موبوء بالنفاق؟ كيف نعيد للكلمة مهابتها وسط زحف الفوضى وخراب المعنى؟ إننا بحاجة إلى جرأة لا تعرف المحاباة، وإلى لغة تنحت من الألم جمالًا، وإلى وعيٍ لا يُخدع بالهالة ولا يُرهب بالألقاب. فليس كل من كتب قد كتب، وليس كل من نشر أصبح كاتبا، فالنص لا يُقاس بعدد الصفحات، ولا بجمال الغلاف، بل بقدرته على إرباك القارئ، على خلخلته، على تحريض أسئلته لا على تهدئتها. إن أخطر ما يحدث في مشهدنا الثقافي اليوم ليس اختلال الموازين فحسب، بل تآكل القدرة على التمييز، ورضا الجمهور بالقليل، وقبول المؤسسات بالرداءة كمعيار للنجاح، فصار كل من يصرخ يُسمع، وكل من يثرثر يُصفق له، أما من يكتب بصمت، من يشتغل على المعنى، من ينحت اللغة من عظامه، فيُطرد خارج السرب لأنه لا يُجيد الرقص مع الزيف. وكم من نص عظيم مات في الظل لأن صاحبه لم يُجامل، وكم من هراء تصدّر لأن كاتبه عرف من أين تُؤكل كعكة الجوائز. إننا نعيش تآكلا جماعيا في الحسّ الجمالي، وتبلدا في التلقي، وسطوا على المعنى باسم التجديد، واغتيالا للعمق باسم الحداثة، حتى بات كل تافه يُقدم كمنقذ للغة، وكل سطحيّ يُرفع إلى مقام الفيلسوف، وكل مهزوز يُنصب حَكَما على نصوص غيره، دون أن يمتلك أدنى مقومات النقد أو أدبياته أو شجاعته. وهكذا تضيع النصوص الجيّدة وسط الغبار، فلا من ينصفها، ولا من يقف لها احتراما، وتبقى تئنّ في الأدراج، بينما تتصدّر الواجهات كتبٌ خاوية تُباع لأنها تُروَّج، لا لأنها تُقرأ. وهل نلوم القارئ وحده؟ كلا، فالخديعة تبدأ من رأس الهرم: من دور النشر التي لم تعد تبحث عن القيمة بل عن الربح، من النقاد الذين صاروا شركاء في المؤامرة، من المهرجانات التي تُدار كما تُدار الصفقات، من الصحف التي تحتفي بما يُطلب منها لا بما يُدهشها، ومن جامعات تُخرج أجيالا لا تقرأ ولا تكتب بل تكرّر كالببغاوات. في كلّ هذا الخراب، تبدو الكتابة فعلا مضادا للزمن، فعلا مقاوما، فعلا يائسًا لكنه ضروريّ. لا لأننا نُراهن على التغيير الفوريّ، بل لأننا نؤمن أن الجمال الحقيقيّ لا يموت، وأن الكلمة التي تُكتب بصدق ستبقى، ولو حوصرت، ولو جُوّعت، ولو خُنقت. وحده النص الصادق ينجو من مقصلة السوق، من تهريج الجوائز، من دناءة التواطؤ، من فوضى المنابر، من حفلات الافتتاح السخيفة التي تُدار كما تُدار مهرجانات الأزياء. وحده النص الجميل، الجارح، العميق، سيعيش، ولو بعد حين، لأنه لا يشبه الزمن، بل يفضحه، لا ينحني له، بل يقف شاهدا عليه. فالكتابة الحقيقية ليست ترفًا، ولا هواية، بل موقف. والنقد الحق ليس تعليقا على الهامش، بل موقف. ومن لا موقف له، فليصمت.