من نكبة يونيو إلى نكبة غزة

ماجد كيالي

نجم عن حرب يونيو (حزيران، 1967) نكبة ثانية في تاريخ الفلسطينيين، وعلى الصعيد العربي)، بغض النظر عن تسميتها بـ “النكسة”، ففيها استطاعت إسرائيل إحكام سيطرتها على كامل فلسطين التاريخية، من النهر إلى البحر، وهزيمة جيوش عدة دول عربية، وعبرها رسمت صورتها كدولة رادعة، وأسطورتها عن “الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر”.

بعد تلك الحرب عززت إسرائيل طبيعتها كدولة يهودية، ومكانتها كمركز ليهود العالم، وكملاذ آمن لهم، كما حسّنت وضعها الاقتصادي، بحيازة أراض زراعية جديدة، وبتمكينها من السيطرة على المصادر المائية (في الضفة والجولان)، واستخدام اليد العاملة الرخيصة من الضفة والقطاع، وتحويل تلك المناطق إلى سوق استهلاكية لها، إضافة إلى إنها عززت مكانتها في العالم، وكامتداد للغرب في الشرق الأوسط.

مع ذلك فإن إسرائيل، لم تستطع ضمّ الضفة والقطاع، ولا لفظهما، بسبب مقاومة الفلسطينيين للاحتلال، وممانعة الدول الغربية، وبسبب تخوف الإسرائيليين من التحول إلى أقلية، أو تحسبا من تحول دولتهم إلى دولة ثنائية القومية، فحتى قطاع غزة الذي انسحبت منه إسرائيل (2005)، فرضت عليه الحصار المطبق، وبات كل شيء فيه (العبور وحركة البضائع والأشخاص) تحت السيطرة الإسرائيلية؛ من دون أن تتمكن إسرائيل من تحقيق ذلك بشكل مطلق، بدلالة حرب غزة منذ ثمانية أشهر.

أيضا، ونتيجة لتلك الحرب باتت إسرائيل تُعرّف كدولة استعمارية، لاحتلالها أراضي بالقوة، وسيطرتها على شعب آخر، وباتت علامات الشك تُطرح بشأن صدقية الديمقراطية الإسرائيلية التي بدت ديمقراطيةً لليهود وحدَهم، في حين يجري التمييز ضد السكان من غير اليهود؛ مما أثار شبهة العنصرية بالنظام الإسرائيلي الذي بات نظاما استعماريا وعنصريا في آن معًا؛ وذلك حتى بتقدير محللين ومنظمات حقوق إنسان في إسرائيل.

على الصعيد الفلسطيني فإن تلك الحرب نجم عنها صعود قضية فلسطين، بانطلاق المقاومة المسلحة، وبروز الكيانية الفلسطينية، إذ من الصعب تخيّل حال الحركة الوطنية الفلسطينية والكفاح المسلح، وصعود العمل الفدائي من الأردن ولبنان وسوريا، من دون الحاجة العربية للرد على النكبة الثانية، أو النكسة (بالمصطلحات الرسمية)، أو التغطية عليها، ما سهّل تبلور الكيانية الفلسطينية المتمثلة في منظمة التحرير.

طبعا لا يعني ذلك أنه من دون حرب يونيو (67) ما كنا سنشهد حركة وطنية فلسطينية، إنما القصد أن تلك الحركة كانت ستظهر وتعبر عن نفسها بأشكال وبمظاهر أخرى وبتعبيرات مختلفة.

بيد إنه مقابل ذلك، أي مقابل تسهيل الواقع العربي صعود الكيانية الفلسطينية، والكفاح المسلح، فقد انتقلت السياسة الرسمية العربية، من مستوى الصراع على وجود إسرائيل، إلى مستوى الصراع على حدود إسرائيل (إزالة آثار العدوان)، ومن مواجهة المشروع الصهيوني، إلى مواجهة العدوان الإسرائيلي، ومنذ ذلك الحين، ورغم كثير من التطورات والتحولات، فإن معادلات تلك الحرب لم تتغير، وما زلنا نعيش تداعيات ما بعدها.

في السياق ذاته، فقد أدى احتلال الضفة والقطاع إلى توحيد الأرض الفلسطينية والشعب الفلسطيني أيضاً، إذ التقى فلسطينيو 48 مع فلسطينيي الضفة والقطاع، ما عزز من مسار هويتهم الوطنية (الفلسطينية)، الأمر الذي انقطع مع إقامة السلطة، وتهميش منظمة التحرير، الذي أدى إلى ظهور تباين في الأولويات والمصالح الفلسطينية؛ وهذا ما تشتغل إسرائيل على تعميقه اليوم.

وبالمثل، فعلى صعيد إسرائيل، فقد أدت تلك الحرب إلى توحيد فلسطين، أو ما تطلق عليه “أرض إسرائيل الكاملة”، بحيث بات ثمة تطابق في إدراكات الإسرائيليين بين “دولة إسرائيل”، و”أرض إسرائيل”، وفق المفهوم التوراتي (“أرض الميعاد”)، والمقصود مناطق الضفة الغربية (“يهودا والسامرة” بالتعبير الإسرائيلي)، وحيث القدس باتت موحدة، ما نتج عنه تطور سياسي إسرائيلي كبير لجهة اقتراب الصهيونية الدينية من الصهيونية القومية والصهيونية العلمانية؛ ما أدى بعد عشرة أعوام إلى صعود الليكود، واليهود الشرقيين والمتدينين إلى سدة الحكم في إسرائيل، إلى اليوم، باستثناء فترات قصيرة، ومن ثم فقد أدى ذلك إلى هيمنة اليمين القومي والديني على إسرائيل.

وكما هو معلوم، فإن غياب الحسم في إسرائيل بشأن مصير الأراضي المحتلة (الضفة والقطاع)، خلق انشقاقات سياسية وفكرية عديدة في المجتمع الإسرائيلي، بين اليمين واليسار، وبين مؤيدي التسوية أو الانسحاب من الأراضي المحتلة، وضمنهم أصحاب نظرية وحدانية شعب إسرائيل، من جهة، والقوميين المتطرفين، وضمنهم المستوطنون وأصحاب نظرية أرض إسرائيل الكاملة من جهة أخرى. ويأتي ضمن ذلك تعمق التناقض بين أولوية إسرائيل كدولة يهودية أو أولويتها كدولة ديمقراطية، بالارتباط مع الاحتلال، ومع طبيعة مكانة الفلسطينيين، أي أن احتلال 1967 بات أحد محفزات تصدع الاجماع الإسرائيلي، وأحد أسباب الخلاف في السياسة الإسرائيلية، وبين إسرائيل وحلفائها في الغرب.

ولعلنا نشهد أهم فصول ذلك اليوم في حكومة نتنياهو سمتريتش بن غفير، التي تبدو كحكومة متطرفة إزاء الإسرائيليين العلمانيين، باعتزامها تحقيق نوع من الانقلاب الدستوري، ينقل إسرائيل من كونها دولة علمانية وليبرالية وديمقراطية (نسبة لمواطنيها اليهود) إلى كونها دولة دينية ويهودية وعنصرية؛ من جهة، مع سعيها للهيمنة على الفلسطينيين من النهر إلى البحر، عبر ترويعهم واخضاعهم، وعبر حرب الإبادة التي تشنها عليهم في غزة، منذ ثمانية أشهر، وهي حرب تعكس عدم قدرة إسرائيل على بقائها كدولة احتلال، أو كدولة تسيطر على حياة الفلسطينيين.

هكذا، فمن نكبة 48، إلى نكبة 67 إلى نكبة غزة، تبدو إسرائيل كمولدة نكبات، لكنها في ذلك تبدو كدولة استعمارية وعنصرية تمارس حرب إبادة ضد الشعب الفلسطيني، الأمر الذي يدلل على مأزقها كدولة تعيش على الحراب، وكدولة منبوذة في العالم، وكعبء سياسي وأخلاقي وامني واقتصادي على يهود العالم، وعلى الدول الغربية الحليفة لها.

شاهد أيضاً