شهدت العلاقات الأميركية – الإسرائيلية توترات كبيرة بسبب السياسات التي انتهجها نتنياهو، الذي بات الشخص الذي مكث أكثر من غيره كرئيس لحكومة إسرائيل في ثلاث حقب (الأولى من 1996 ـ 1999، الثانية من 2009 ـ 2021، الثالثة، وبدأت أواخر 2022).
ففي الحقبة الأولى، التي أتت بعد اغتيال إسحاق رابين، عمل نتنياهو على تقويض اتفاق أوسلو، وتقويض مشروع “الشرق الأوسط الجديد”، الذي كانت الولايات المتحدة (في عهد الرئيس بيل كلينتون) تراهن عليه، لترسيخ هيمنتها على النظام الدولي، وتعزيز مكانة إسرائيل في المنطقة. وفي الحقبة الثانية اشتغلت الخلافات بينه وبين الرئيس باراك أوباما بسبب رفضه وقف الاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتجميده عملية التسوية مع الفلسطينيين.
وقد روّج كثر من المحللين الإسرائيليين المؤيدين لنتنياهو فكرة الخروج على السياسة الأميركية، بدعوى مصلحة إسرائيل وفقا لفهمهم لها. مثلا، هذا نداف هعتسني يقول: «التنازل عن الاستيطان، إرضاء للولايات المتحدة، سيؤدي إلى تشجيع الفلسطينيين على المطالبة لاحقا بقرار التقسيم (1947)، وبالتالي بحظر «بناء شقق في يافا أيضا». (معاريف، 18/3/2010). وحذّر يعقوب عميدرور (عميد احتياط) قائلا: «ربما نكون أمام أزمة صعبة ومؤلمة، لكن..الخضوع الآن لمطالب واشنطن أخطر».(إسرائيل اليوم، 16/3/2010)
على ذلك ثمة وجهتا نظر في إسرائيل، في التعاطي مع الولايات المتحدة، الأولى، تعتبر أن إسرائيل في علاقة إستراتيجية معها وكامتداد للغرب في المنطقة. لذا فهي حريصة على تقديم نفسها كواحة للديمقراطية والحداثة فيها، لضمان استمرار دعمها وأمنها وتفوقها، من مختلف النواحي.
وتبعا لذلك، فوجهة النظر هذه ترى أن إسرائيل مدينة للولايات المتحدة، بالتسهيل لسياساتها في الشرق الأوسط، بما لا يخلّ برؤيتها لذاتها كدولة قومية لليهود، ولا بالاجماعات الداخلية فيها.
أما الثانية، فتعتبر أن الولايات المتحدة هي المدينة لإسرائيل التي تقدم لها الخدمات في الشرق الأوسط، في الحفاظ على أمن مصالحها، بوصفها بمثابة حاملة طائرات برية، وأن دعم الولايات المتحدة لها أقل من كلفة انفاقها على حاملات طائراتها المنتشرة في البحار والمحيطات.
لذا فإن أصحاب وجهة النظر هذه من المتطرفين، المنفصمين عن الواقع، يرون أن إسرائيل ليست معنية بمراعاة السياسات الأميركية التي لا تتوفق مع رؤيتها، بخصوص أرض إسرائيل الكاملة، وفرض رؤيتها للتسوية مع الفلسطينيين.
وعن ذلك كان المحلل الإسرائيلي حانوخ داووس كتب قائلا: «لا يمكن شراء روح الإنسان بأي مبلغ مالي. وبالتأكيد ليس روح دولة.. إسرائيل تحتاج إلى أميركا.. لكنها تحتاج بقدر أكبر إلى الاستقلالية.. يوجد جانب آخر في هذه المعادلة.. الولايات المتحدة هي أيضا تحتاج إلى إسرائيل». (يديعوت أحرونوت، 16/3/2010)
في ذلك يرى اسحق شامير، رئيس وزراء إسرائيل الأسبق (مطلع التسعينيات)، أن «إسرائيل شريكة للولايات المتحدة، وليست دولة عادية فهي تشكّل 50 بالمئة من الشرق الأوسط».(دافار، 29/9/1991).
ويتقاطع ذلك الكلام مع اعتبار نتنياهو بأن «إسرائيل دولة ذات سيادة تتخذ قراراتها بإرادة شعبها، وليس على أساس ضغوط من الخارج بما في ذلك من أفضل الأصدقاء» (28/3/2023)، وذلك ردا على دعوة الرئيس الأميركي جو بايدن له إلى وقف التعديلات الدستورية في إسرائيل.
على ذلك فإن أقوال شامير ونتنياهو من صميم السياسة الإسرائيلية، أو من صميم اداركات إسرائيل لذاتها، سيما في أوساط اليمين القومي والديني المتطرف، ما يفسر قول بن غفير (وزير “الأمن القومي” ورئيس حزب “القوة اليهودية”): «على بايدن وإدارته أن يفهموا أن إسرائيل ليست نجمة أخرى في علم أميركا» (28/3/2023).
وللتذكير فإن لا علاقة لذلك بالخلفية الحزبية للرئيس الأميركي، ففي حالة شامير كان الاشتباك مع رئيس من الحزب الجمهوري (بوش الأب)، أما في حالة نتنياهو فهو مع رئيس من الحزب الديمقراطي (كلينتون ثم أوباما ثم بايدن)، بمعنى أن المسألة تتعلق بمصالح الولايات المتحدة، وبطريقة رؤيتها لضمان أمن واستقرار إسرائيل في الشرق الأوسط، وفق فكرتها عن “إنقاذ إسرائيل رغم أنفها”، بحسب تعبير لجورج بول مساعد وزير الخارجية الأميركية (عهد الرئيس كارتر).
إلى ذلك، فإن الولايات المتحدة تتعامل مع إسرائيل وفقا لمسؤوليتها عنها، وكعامل داخلي فيها، بقدر دعمها لها سياسيا واقتصاديا وعسكريا، وبقدر ضمانها لأمنها وتفوقها في المنطقة، مع مراعاتها لحساسيتها، في ما يتعلق بسياساتها إزاء الفلسطينيين.
أيضا، فإن المسألة تتعلق بمصالح الولايات المتحدة، ورؤيتها لضمان أمن واستقرار إسرائيل في الشرق الأوسط، وفق فكرتها عن «إنقاذ إسرائيل رغم أنفها»، بحسب تعبير لجورج بول مساعد وزير الخارجية الأميركية (عهد الرئيس كارتر).
في المقابل فإن إسرائيل لا تستطيع التفلّت من ذلك الواقع المريح لها والذي يضفي عليها قوة مضافة، مع ما تتمتع به من عناصر قوة إزاء العالم العربي، لكنها تشتغل ما أمكنها على وضع سياساتها في قلب الإستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط، انطلاقا من رؤيتها لذاتها ولأمنها القومي.
الآن، فإن نتنياهو، في حقبته الثالثة (منذ أواخر 2022)، يقف في مواجهة إدارة بايدن، مع تشكيله حكومة متطرفة، تجمع حزبه، الليكود، مع الأحزاب الدينية، لإحداث انقلاب سياسي لا يتعلق فقط بالفلسطينيين، وإنما أيضا بتغيير طبيعة إسرائيل، ونظامها السياسي، ومن هنا يأتي تعقيد حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل ضد فلسطينيي غزة، ومن هنا يأتي أيضا ذهابه إلى الكونغرس الأميركي، أي إلى بيته الثاني، لمخاطبة الشعب الأميركي، ومخاطبة الفريق الأخر، أي حزب دونالد ترامب، بكل ما يعنيه.