السياسي – لا يحتاج القاتل إلى ترخيص بالقتل ولكنه قد يحتاج حماية، لذلك ذهب إلى الكونغرس واستصدر رخصة القتل، بل حصل على الغطاء الكافي ليبدأ حربا جديدة أو حربا بلا حدود فضرب حيث شاء. وهو ينتظر اللحظة أمرين أمرّهما عنده حلو، فإما أن يصمت الذين اعتُدي على عواصمهم فيخرج منتصرا، أو أن يردوا على الحرب بمثلها، فيفتح حربه التي يظنها تحفظ وجوده في مكانه، وتحفظ للكونغرس أو الحامي مصالحه الأبدية في المنطقة.
نحن نتفق معه في أن هذه الحرب حرب وجود لا حرب حدود، والكونغرس يتفق معنا أيضا، لذلك وضع ثقله في المعركة متجاوزا كل السلطات التنفيذية، التي موهت موقفها وتظاهرت برفض الحرب حتى بلغ حرجها مداه، وشعرت بخطرها على وجودها. لكن حسابات الكونغرس غير حسابات الرؤساء؛ السلطة الحقيقة الضامنة للتمويل الأبدي تسكن هناك وقد آذنت بتوسيع الحرب. هل هي الحرب الشاملة؟ العالم أو جزء منه يمسك أنفاسه، وسنحاول تبين الطريق وننتظر.
هجوم أخير أم حرب شاملة؟
كانت الحرب في غزة تؤذن بهزيمة الكيان وقائده المحارب، فلا عسكره صمد ولا آلياته كفته ولا الدعم المباشر سد الفراغ، وكانت علامة تفكك جبهته الداخلية تقترب من حرب أهلية. كان هذا واضحا لأنصار المقاومة بالحدس، ولكنه كان أوضح وبالأرقام لدى الكيان ولدى داعميه، وهو الأمر الذي جعل المفاوض الفلسطيني في موضع قوة، رغم خسائره في الأرواح والبنية التحتية.
كان الخضوع للتفاوض في ذاته علامة هزيمة، وكان قبول بقاء غزة تحت سلطة حماس وقد سقطت كل الحلول؛ أكبر هزيمة للجيش الذي لا يقهر. نظريا كان العدو منقادا إلى نهايته، لذلك نفسر ضرباته في لبنان وفي طهران بمنزلة هروب آخر من نهايته. لكن كيف يهرب من حرب ضيقة إلى حرب شاملة؟
كل سلوكه السياسي والحربي يكشف شخصية تستهين بكل من حوله؛ بدءا من جمهوره وصولا إلى مصالح العالم المتشابكة في المنطقة (مصدر الطاقة الأهم في العالم). من أجل أن يؤجل (أو يلغي) احتمال اندثاره، يحمل العالم معه إلى كارثة. فهل يضمن أن ينجو من حرب يمكنه إطلاقها، ولا يملك أحد تخيل نهايتها؟ نظن بيقين، أن الكونغرس قد أعطاه الرخصة لذلك، فالهجوم فيه تحدي محارب مسنود من قوة كبيرة.
من ينقذ العالم من جنون القوة؟
الآن، يحبس العالم أنفاسه منتظرا رد الفعل الإيراني من طهران ومن العواصم الدائرة في فلكها، وقد قال الجميع منذ الساعات الأولى؛ إن إيران تتعرض إلى اختبار مصيري، ولا نشك في أن وسطاء كثرا يزحفون الآن إلى إيران راجين عدم الرد، واضعين مصير العالم على طاولة المرشد.
من ينقذ العالم من جنون نتنياهو؟ وهل تكفي الحكمة الإيرانية لتفويت فرص الحرب؟ المعادلة بهذه البساطة، نتنياهو يحارب العالم وإيران تحتاج ردا بحجم الإهانة، والوسطاء وإن لم نرهم، لا يقدمون أي ثمن لإيران سوى طلب التعقل أو شرب السم، خاصة أن المعتدي لا يخجل، وسيقرأ عدم الرد خوفا من قوته، ويلوح بقوة الكونغرس من خلفه.
هل تفاوض إيران المنتهَكة السيادة على حل في غزة مقابل امتصاص الإهانة فتقنع أذرعها بالصبر والتريث؟ بأي وجه سيخرج نصر الله في تأبين قائده الأعلى رتبة، وأي ردع يبقى بين يديه إذا لم ينفذ تهديدا سابقا (عاصمة مقابل عاصمة)؟
نحن في مرحلة الترجيحات بلا معلومات، ونرى غرور العدو وعدوانيته، ولذلك نعتقد أنه في مقابل تعقل إيراني، سيوغل نتنياهو مسنودا بالكونغرس في إهانة إيران وحلفائها، فهذه الفرصة الذهبية التي ينتظرها. هل يغيب هذا عن إيران وهي تتعقل وتؤجل الرد أو تلغيه؟ لا نقدم درسا لإيران ولا لحلفائها، فهم على الجبهة فعلا لا قولا، إنما نذكر أن العالم في مواجهة محارب خسيس وكونغرس أشد خساسة، وكلاهما يعيش من القتل ويتمتع به.
هذه حرب ضرورية.. لسنا بأخلاق نتنياهو، ولكن إلجام هذا الجنون برد قوي واسع النطاق، يضع مصالح العالم في أزمة شاملة صار ضروريا، وما يردنا عن الدعوة لهذا، إلا بعدنا الجغرافي المؤقت عن الجبهة المشتعلة.
إن احتفاء الكونغرس بالعدو يكشف (بل يعيد التأكيد)، أن لا قيمة لأهل المنطقة في حساباته، فلا أرواح الناس تهمه ولا كرامتهم ولا مستقبله، إنها البلطجة الدولية التي تحتاج ردعا فعالا.
نرى فارق القوة العسكرية بوضوح، ولكن نرى نوعية المحارب الغزاوي الذي نجح رغم الفارق، ونرى أن رقعة حرب واسعة تجر الجميع إلى الدفاع عن نفسه. نتوقع الأثمان التي ستُدفع، ولكن نرى خسارات العدو أيضا.
الجميع سيتألم حتى يفهم لمرة أخيرة، أن السبب في مآسيه ليس المحارب الغزاوي ولا الإسناد الإيراني، بل بلطجة الكونغرس وأداته في المنطقة. وهناك معطى واضح؛ نجاة نتنياهو بفعلته الأخيرة سيعيد المنطقة إلى ما قبل السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، وسيفرغ انتصار غزة من مضمونه التاريخي والاستراتيجي.
هذه الحرب الشاملة مؤجلة، وقد ناورت دول المنطقة كل بأسلوبه لاجتنابها، بما في ذلك الذين يحكمون شعوبهم برخصة من الكونغرس ويؤدون طقوس الولاء والطاعة؛ بما في ذلك الغدر بحماس.
نعي جيدا أن تخيل الأمر أسهل من تنفيذه (ويمكن كتابته شعرا ورواية)، ولكن السؤال المعلق منذ سبعين عاما: هل قدم التهرب من هذه المعركة حلا لشعوب المنطقة ودولها؟
إن كسر غرور نتنياهو وحلفائه (وكل الكيان)، يمر حتما بتهديد مصالح العالم الاقتصادية، وفي هذه اللحظات من التوجس والترقب، تملك إيران إشعال هذه الحرب ودفع اللهيب من حولها، حتى إيقاظ العالم من سباته، أو شهادة على طريق إسماعيل هنية.
فتح جبهة سيكون مقدمة لفتح جبهات كثيرة، فيخرج كثير من القاعدين من دفء كراسيهم على شوارع مقهورة، ولم يقهرها إلا خدم الكونغرس الذين اصطفاهم لخدمته، وكان أكبر خدماتهم قهر شعوبهم.