في المفهوم:
عند البحث عن تحديد مفهوم المذهب أو المنهج الواقعي في الأدب، سيجد القارئ اختلافات كثيرة بين العلماء والنقاد حول تحديد تعريف واضح له, والسبب في ذلك أن هذا المنهج تعددت تياراته واتجاهاته وصارت له مفاهيم عدّة، مثل “الواقعيّة الطبيعيّة”, و”الواقعيّة الأوربيّة الليبراليّة”, و”الواقعيّة الاشتراكيّة”, و”البنيويّة التكوينيّة”, و”نظرية الانعكاس أو النظريّة الاجتماعيّة”, و”واقعيّة أدرنو”, و”واقعية باختين”..الخ ولكن يُمكننا أن نحدد الخطوط العريضة إلى حد ما فيما يخص المذهب الواقعي بشكل عام لنقول:
إن الواقعيّة جاءت نسبة إلى الواقع، والواقع هو الموجود حقيقةً في الطبيعة والمجتمع الإنساني، وله نوعان: واقع حقيقي، وواقع فني.
فالواقع الحقيقي: إذا ما وُصِفَ, كان الوصف صادقاً لموافقته على ما هو موجود، وكأنه صورة فوتوغرافيّة عن الواقع.
أما الواقع الفني: وهو الوصف أو التعبير الذي يقوم به الأدب والفن لهذا الواقع. فهذا الواقع الفني يرتكز على رسم إبداعي لواقع ليس من الضروري أن يكون حقيقيّاً تماماً، صحيحٌ أنه يأخذ سماته من الواقع الحقيقي، لكنه يحوّر ويزيد وينقص ويعيد التشكيل بروية المبدع, الذي يصور الواقعٍ ليس نسخة مطابقة للواقع الحقيقي كما في الصيغة الأولى، وإنما هو محاكٍ له، لأنه يجري في ميدانه ويخضعُ لشروطه. والكاتب الواقعي أو الفنان هنا يبدع شخوصه ويصف ملامحها ويصوّر بيئتها كما يرى، ولكنه يتقيد بالأطر المألوفة في واقعه التي يفترض ألا تثير الغرابة والاستنكار، وبهذا تكون اللَّوحة الفنيّة التي يرسمها الفنّان قد استمدت عناصرها من الواقع الخارجي الحقيقي, إلا أنها تشكل مخيّلاً لواقع آخر هو واقع الفنان الخاصّ الذي يراه من زاويته الإبداعيّة الحرّة، فهو يتصرف بالألوان والظّلال والخطوط والأشكال والشخصيات كما يريد دون أن يبتعد عن منطق الواقع وسماته في الإنسان ومحيطه. (1).
إذن إن الواقعيّة الأدبيّة وفق هذا المعطى هي تصوير فني للإنسان والطبيعة في صفاتهما وأحوالهما وتفاعلهما، مع العناية بالجزئيات والتفصيلات المشتركة للأشياء والأشخاص والحياة اليوميّة، حتى لو كانت تفصيلاتٍ مبتذلة، وكل ذلك ضمن الإطار الواقعيّ المألوف، وإن الواقع هنا لا تُشْتَرَطُ فيهِ الأمانةُ في النسخ بل يُشْتَرَطُ فيهِ ما يُسمَّى بالصِّدْقِ الفني، وبهذا يتحوّل الكاتب إلى فنان مبدع لا إلى مجرد ناسخ.
ويُقال: إن الواقعيّة تعني المعرفة العقلانيّة للحياة، أو هي طموح العقل الإنساني وتطلعه لاكتشاف حقيقة الحياة ومعرفة خفايا العالم، وإدراك قوانين تطور المجتمعات واتجاهاتها والآليّة التي يعيشها المجتمع الإنساني.(2). وممّا هو مهم في مفهوم الواقعيّة أنّها تهتم بمعرفة الطبيعة الإنسانيّة خصوصًا، وعلاقة الإنسان الفعليّة بالعالم الواقعي المحيط به، وأنّ المنهج الواقعي أسهم في اكتشاف قوانين وحقائق جديدة للحياة أغنت وأثرت (الواقعيّة النقديّة) واتجاهاتها وأشكالها، إذ إنّ العالم كلّه يكون مادة للتصوير والتعبير، وبذلك تتسع الرؤيا وتتعمق وتكون أكثر نضجًا وصدقًا لأنها متصلة بالواقع.
وبتعبير آخر: إنّ الواقعيّة في الأدب تعني الموضوعيّة، وتصوير الحياة الواقعيّة تصويرًاً ايجابيّاً لا يخلوا بالضرورة من عناصر الخيال والتشويق والمجاز، إنما الأهم هو تسلّط اهتمامها على حياة الشعوب والمجتمعات كما هي وبنظرة موضوعيّة بعيدة عن الانطباعات الذاتيّة والحدسيّة المجردة عن الواقع, أو المشبعة بحمولة أيديولوجية مغلقة لا تعترف بحريّة الإنسان والاختلاف. ومع هذا البعد تكون مواضيع الابداع فيها أكثراً تأثيراً عند المتلقي. (3).
نشأة المنهج الواقعي في الأدب:
إن الواقع يحدّد الفكر حسب النظريّة الواقعيّة بشكل عام, والواقعيّة الاشتراكيّة, أو نظريّة الانعكاس عند جورج لوكاش بشكل خاص. ويمكننا القول دون تردد إن: كل المذاهب أو المناهج الواقعيّة الأدبيّة التي أشرنا إلى معظمها أعلاه, وُضعت بناء على أسس متعددة تتعلق بالظروف الموضوعيّة لحياة المجتمعات بالضرورة من جهة, وما يتعلق بالأديب وقدراته الإدراكيّة لواقعه وواقع مجتمعه ذاته من جهة ثانية، وبفكرة العمل الأدبي من جهة ثالثة، وربما بالنقد الأدبي نفسه من جهة رابعة. ومن المناهج التي انتشرت في العصر الحديث, وعلى أثر ظهور الآداب العالميّة كان للمنهج أو المذهب الواقعي في الأدب، نشأته الواقعيّة في الغرب مع النصف الثاني من القرن التاسع عشر, كرَدِّ فِعْلٍ على الرومانسيّة التي أفرطت في الخيال والأوهام والأحلام والانطواء على الذات والهروب من الواقع الاجتماعي والانزواء في الأبراج العاجيّة، وبالتالي الانصراف أو التخلي عن معالجة قضايا وشجون الإنسان جرَّاء صراعه اليومي في مجتمعه الصناعي الصاخب وسيطرة الطبقة الرأسماليّة على السلطة في عالم الغرب الرأسمالي، فجاءت الواقعيّة احتجاجاً على الرومانسيّة من الناحية الموضوعيّة، في حين جاءت كُلٌّ من “البرناسية” (الفن للفن) والرمزيّة رداً على الواقعيّة ذاتها من الوجهة الشكليّة والجماليّة.
ومما دعا إلى نشوء الواقعيّة أيضاً التقدم العلميّ والإنجازات العلميّة الهائلة لا سيما في البيولوجيا وعلم الطبيعة والوراثة، وفي الدراسات الإنسانيّة والاجتماعيّة والفلسفيّة، إضافة إلى تزايد الاهتمام بالطبقات الاجتماعيّة المختلفة بما فيها الوسطى والفقيرة والمهملة، وعدم الاقتصار على النبلاء والبورجوازيين، وبهذا فإن الواقعيّة شكلت اتجاهاً نحو الإنسان بشكله المشخص, يعتمد على صدق تصوير الواقع الفردي والاجتماعي وتمثيله.(4). إنّ نشأة المذهب الواقعي في سياقه العام وخاصة في إرهاصاته الأولى, تعود في الحقيقة للفكر الماركسي، وقد عُرف هذا التيار في تاريخ النقد الحديث بأسماء عدّة تؤدي المعنى ذاته، منها: “النقد الاجتماعي”، أو “النقد الأيديولوجي”، أو “النقد اليساري”، أو “النقد الاشتراكي”، أو النقد “الماركسي الديالكتيكي” أي الجدلي.(5).
إنّ الحديث عن الواقعيّة كمنهج أو نظريّة باعتبارها ارتبطت بالواقع, يُقصد به, دراسة الأعمال الأدبيّة ومقاربتها نقديًا على أنّها نتاج للواقع الطبيعي أو الاجتماعي أو التاريخي، وهذه الدراسة تكون من خلال معايير وأسس مُحدّدة من قِبَل الناقد الواقعي سنحددها لا حقاً في هذه الدراسة.
إنّ نشأة المذهب الواقعي في الأدب جعلت الكثير من النقاد والمهتمين بدراسة الأدب, ينظرون إليه على أنّه النقد الصحيح والمنطقي للأعمال الأدبيّة، وكل ما عدا ذلك هو خاطئ بهذا الشكل أو ذاك، حتى أنّ هذا التيار انتقل إلى الأوساط النقديّة العربيّة في القرن العشرين على مدى عقدين كاملين وهما الخمسينات والستينات، وقد هيمن هيمنة تامة على ساحة النقد العربي، إلى أن نظر الكثيرون إليه على أنه هو النقد فقط. ( ممّا يجدر ذكره أنّ هذا التيار الواقعي الذي غزا الأوساط العربيّة كان متناسبًا مع فترة التغيرات السياسيّة والاجتماعيّة والتاريخيّة في تلك المناطق بعد سيطر القوى اليساريّة على العديد من الأنظمة العربيّة، حيث حصلت تغيرات في البيئة الاجتماعيّة والتاريخيّة في العديد من دول العالم العربي، ومنها ساحتي الأدب والنقد، ووصل التيار “الواقعي الماركسي أو الاشتراكي” بصيغته الأيديولوجية الفجة إلى أغلب البلدان العربية. هذا وقد بيّن الكثير من النقاد المهتمين بهذا التيار أهميّة دراسة الأدب بالنظر إلى عوامل البيئيّة الاجتماعيّة والتاريخيّة. كما وبدأت تختلف وجهات النظر في البيئة العربيّة نفسها حول الدراسة الواقعيّة للأدب، فالبعض أراد إدخال العقائد الدينيّة ذات الطابع اليساري والعلماني في مضمونها وبالتالي دراسة الأدب واقعيًّاً بناء عليها، وبعضهم رفض النظر إلى الأعمال الأدبيّة والأدباء من ناحية عقائديّة لأن هذا من شأنه أن يؤدي إلى نوع من التعصب الديني أو الأيديولوجي الوضعي، وهو لا يتناسب مع مبادئ الواقعية التي تتجرد من الانطباعات الذاتية أو الأيديولوجيّة. (6).
مبادئ المنهج الواقعي في الأدب:
نظرا لتعدد مناهج أو تيارات المنهج الواقعي كما أشرنا في موقع سابق, فإن مبادئ المنهج الواقعي في الأدب تحددت عبر مراحل كثيرة ومتعددة وظروف مختلفة تركت تأثيرها في تنوع هذه المبادئ، ويمكن الوقوف عند أبرز هذه المبادئ وهي:
1- تمثيل الأشياء: والمقصود هنا هو أن يكون الأدب ممثلًا للأشياء أو الظواهر المراد دراستها ونقدها, أي الاحاطة بأبعادها وجوانبها وأجزائها أو تفاصيلها الدقيقة، ودرجة تفاعلها مع بعضها وأن تكون عمليّة الاحاطة بها واضحة وصريحة ومصاغة بأسلوب سهل ومباشر وبعيداً عن الغموض والإيحاء. ورغم هذا التوجه البين والبعيد عن الغموض في النظر إلى المواضيع المراد دراستها ونقدها, إلا أن المنهج الواقعي غالباً ما يقوم من قبل متبنيه وخاصة في الغرب بـ (مزج الحوادث) اليوميّة المألوفة في حياة الناس, مع بعض الحوادث الأخرى التي تكون فيها بعض المبالغة والابتذال كالعناية بالتفصيلات الدقيقة والثانويَّة وحتى التافه منها مما يتعلَّق بوصف الملامح والأصوات والألبسة والألوان والحركات والأشياء… وكذلك التركيز على الجوانب السلبيَّة من المجتمع كالأخلاق الفاسدة والاستغلال والظلم والإجرام والإدمان. وهذا ما جعل بعض النقاد يسمي هذه الواقعية بالمتشائمة. وفي الحقيقة لم يكن هذا ناشئاً عن التشاؤم بقدر نشوئه عن الرغبة في الرّصد والمعالجة. فالواقعيّة تؤكد عند تركيزها على المخازي وأبرزها, وبأن المجتمع المصطخب يصدر عن غاية خفيَّة وظاهرة في المجتمع وعلاقاته في آن معاً، فهي خفيَّة لأن الكاتب لا يريد إيجاد الحلّ بنفسه ولكنه يصوّر الأمور تاركاً القارئ يشاركه في البحث عن الحلّ. لأن من طبيعة المذهب الواقعيّ الاهتمام بمصير الإنسان والأخذ بيده إلى مستقبل أفضل إمعاناً في تصوير الواقع وكأنّه حاضر.. (7).
2- اللغة البسيطة والتركيز على القضايا الإنسانيّة: يبتعد المنهج الواقعي في النقد الأدبي خصوصاً والنقد الفلسفي والفكري بشكل عام عن الغموض والتعقيد في تناوله للمواضيع التي يدرسها, فهو يستخدم اللغة البسيطة السهلة المتداولة، والتي يمكن أن يفهمها الجميع، وذلك لما في هذه اللغة من اقتراب من الواقع وتجسيد له، ومحاكاة صادقة لتفاصيله، إضافة إلى اقتراب العمل الأدبي من حياة المجتمع. فهو منهج همه الأساس التركيز على القضايا الإنسانيّة الواقعيّة, والابتعاد عن كثير من القضايا الميتافيزيقيّة وعلاقة البشر بالقدر والغيب والجبر، فهمّ الأديب هو تحليل شخصيات الأعمال الأدبيّة من منظور الإنسانيّة، وفي ضوء علاقتها بالواقع المحيط. (8).
3- الانتقاد الساخر والتركيز على تناقضات المجتمع: من المعروف أن الأعمال الكوميديّة في معظمها تُحاكي الواقع وتعالج قضاياه، ومن مبادئ الواقعيّة في هذا الصدد أن يكون هناك روح السخريّة الناقدة للمجتمع ومشاكله بكل تناقضاته. فليست الحياة حزنًاً دائماً ولا فرحًاً دائمًاً، ولذلك تتّجه الأعمال الواقعيّة إلى عرض الحزن والفرح في المشهد نفسه، والبؤس والسعادة والسخريّة في اللقطة ذاتها، لكي تنقل الحياة كما هي دون تغيير. وبذلك تخفف من أعباء هذه الحياة على القارئ.(9).
4- التحليل الدقيق: يقوم المنهج الواقعي في النقد الأدبي بتحليل النص الأدبي بشكل دقيق لفهم مفاهيمه وأفكاره, ويولي الاهتمام بالتفاصيل الدقيقة أو الصغيرة في النص الأدبي كما أشرنا أعلاه، حيث يصفها بأنها “مفاتيح القراءة” التي تساعد على فهم النص والهدف المراد منه. مثلما يركز أيضاً على المعنى, حيث ينصب الاهتمام في النقد الأدبي بشكل خاص على فهم المعنى الذي يحمله النص الأدبي في مجمله، وكيفية تأثيره على القراء. وهذا يساهم في دفع المعنى (المسكوت عنه) للظهور, وتبيان دلالات ما هو (مضمر) في النص وعند المتلقي معاً. فالمنهج الواقعي النقدي يسعى من خلال تحليله للنص إلى فهم وتفسير المعاني والأفكار التي يحملها النص، على عكس التحليل النقدي السطحي الذي يركِّز كثيراً على المظاهر الخارجية للنص.(10).
5- التركيز على الأسلوب والعلاقات بين مفاهيم النص: يعد الأسلوب من أهم عناصر النص الأدبي، ولذلك يركز النقد الأدبي التحليلي بشكل كبير على معرفة كيفيّة استخدام الكاتب للغة وصياغة عباراته وجمله لإيصال رسالة محددة. مثلما يهتم بالعلاقات بين المفاهيم, والأفكار التي تظهر في النص، حيث يمكن أن تساعد في فهم أكثر لمعنى النص.(11).
6- الحيويّة والمنهجيّة: تتميز الواقعيّة بحيويتها، إذ إنّها شهدت المذهب الرومنسي، وعاصرت نشأة المذهب الطبيعي, والتاريخي والوصفي, وغيرها من المذاهب, ومع ذلك لم تفقد المنهجيّة الواقعية قدرتها على التجدد والانبعاث، واستفادت من غيرها من المذاهب التي عاصرتها، وتطورت إلى أشكال متعددة وتيارات مختلفة. وهذا ما أعطاها بعداً عالميّاً, سرعان ما أصبحت ذات خصائص عالميّة شموليّة، نتيجة لما تُنادي به من مبادئ جماليّة أساسيّة، وبذلك تجاوزت الواقعيّة كل الحدود الإقليميّة والتاريخيّة ووصلت لكل العالم.
إن إيمان المنهج الواقعي بأن الواقع وظروف الحياة بكل معطياتها هي من يحدد طبيعة الفكر ويرسم معالمه بشكل عام, فهذا ما أعطى هذا المنهج القدرة على الاستبصار وكشف الكثير من قضايا المستقبل. إن المنهج الواقعي لا يمكن أن يقتنع بالرؤى الغامضة والضبابيّة للحياة، إنما يقوم على استبصار الغد بوضوح وصراحة وشفافيّة، وهذا الاستبصار لا يكون اعتباطيًّا، إنما بالاستناد إلى معطيات الحاضر الذي يعيشه المجتمع، وعلى تجارب الماضي التي مر بها. (12).
إن الواقعية في سياقها العام, تجاوزت حدود كونها مذهبًاً مقيدًاً بمبادئ وأسس نسبيّة مرتبطة بظروف محددة، بل أصبحت منهجًا حرًا من القيود، وخاصة في المجالين الأدبي والفني، وهذا ما ساهم في انعكاس هذه الحريّة على الأدباء الواقعيين في أعمالهم، وعلى النقاد في دراساتهم أيضًا وخاصة في المجتمع الغربي.
إنّ الحيويّة التي تميز بها المنهج الواقعي، والعالميّة التي وصل إليها جعله ينقسم إلى عدة اتجاهات، كنا قد أشرنا إليها عند حيثنا عن مفهوم المنهج الواقعي, وسنحاول الآن الاشارة إلى أهما في هذه الدراسة وهي:
أولاً: النظريّة الواقعيّة الأوربيّة أو الليبراليّة:
وتسمى أيضاً الواقعية “المتشائمة” أو “الناقدة”. والمقصود بها المذهب الواقعيّ الأصليّ الذي ساد في فرنسا وبلاد أوربا لدى معظم الكتّاب بشكله العام منذ منتصف القرن الثامن عشر, مع الاحتفاظ بالاختلافات المحليّة والفرديّة وتعدُّد الألوان ضمن التيار الواحد. وبشكل أكثر يمكننا القول تحديداً: هي الواقعيّة قبل أن تتفرع عنها الواقعيّة الطبيعيّة والواقعيّة الاشتراكيّة الجديدة.
إن للواقعيّة الأوربيّة خصائص وسمات تميزها عن المدرستين الكلاسيكيّة والرومانسيّة وتجعلُ منها نهجاً أدبيّاً ذا معالم خاصة وماهيّة مستقلّة شملت الآداب الأوربيّة أكثر من نصف قرن. وظلت آثارها باقية ومستمرةً في القرن العشرين. ويمكن إجمال هذه الخصائص والسمات فيما يلي:
1- النزول إلى الواقع الطبيعي والاجتماعي والانطلاق منه: أي الارتباط بالإنسان في محيطه البيئيّ وتفاعله وصراعه مع المحيط الطبيعي والاجتماعي. ومن هذا الواقع يستمد الكاتب موضوعاته وحوادثه وأشخاصه وكلّ تفصيلاته. إنه ينزل إلى الأرض والبشر، ويصرف نظره عما عدا ذلك من المثاليات والخياليات والغيبيات والأساطير الخرافيّة التي لا تنطبق مع العقل والواقع. وما يهم الدراس أو الأديب, هو أمور الواقع التي يعيشها الناس ويعانونها. والمقصود بالإنسان هنا, هو الإنسان المشخّص الحيّ الذي يضطرب في سبل الحياة والمعيشة، والذي له وجود حقيقيّ, كونه محور الأدب الواقعيّ، وليس الإنسان المثاليّ العام المجردّ الذي كان محور الأدب الكلاسيكي. ولا الإنسان المنعزل المنفرد، الهارب من المجتمع الذي كان محور الأدب الرومانسيّ.
إنّ الإنسان الواقعي هو الفرد التاريخاني في تعامله وتفاعله ضمن تيار المجتمع والتاريخ المؤثر فيه والمتأثر به، الصانع والمصنوع في آنٍ واحد. وقد يكون الفرد في المذهب الواقعي أنموذجا، لكنه أنموذج نوعيّ وليس عامّاً. إنه أنموذجٌ يضم كل الأفراد الذين هم على شاكلته، والمجتمع يتكوّن من نماذج كثيرة منها الإقطاعي والرأسمالي والعامل والفلاح والبورجوازي والتاجر والمرابي ورجل السلطة والمرأة الطيّبة… الخ. وقد حرص كتاب الرواية والمسرحيّة الواقعيون على رسم هذه النماذج وخلقها لا من العدم والخيال بل من خلال الواقع. وقد عزفت الواقعيّة الأوربيّة عن التعامل مع عالم اللامعقول كما أشرنا قبل قليل, كالتعامل مع الجنّ والأرواح والأشباح والملائكة والأساطير والأحلام والمصادفات والخوارق… لأن هذه الأمور كلها لا تعنيها في شيء، والذي يعنيها فقط هو الإنسان بلحمه ودمه وأعصابه وغرائزه ومشاعره وحاجاته ومطامحه وآلامه وأفراحه المرتبط بالأرض وما حوله من الناس وما يحيط به من الظروف الموضوعيّة. (13).
2- حياديّة المؤلف: وهي تعني العَرْضَ والتحليل وفق واقع الشخصيّة وطبيعة الأمور وبشكلٍ موضوعيٍ, لا وفق معتقدات الكاتب ومواقفه السياسيّة أو الدينيّة أو المزاجيّة أو الفكريّة أو القيميّة أو الأيديولوجيّة بشكل عام. فالكاتب هنا شاهدٌ أمين. يدلي بشهادته حسب منطق الحوادث ومبدأ السببيّة والضرورة الحتميّة وليس كما يهوى ويريد. وهذا لا يعني أنه غير مبالٍ بما يجري حوله، بل يعني أنه لا يريد أن يفرض رأيه وميوله على القارئ. وكما أسلفنا إن الأدب الواقعيّ ليس مجانيّاً ولا عابثاً بل له غاية نبيلة غير مباشرة إذا تجرّد منها سقط في الفراغ والتفاهة والعبث والخداع الذي يقصد منه التسلية. وهذا النوع من الأدب هو أرخص الآداب وأدناها. إن الكاتب الواقعيّ يبدو حياديّاً، ولكن براعته تكمن في أنه قادر على قيادة المتلقي إلى مواقف يريدها هو بحسب قدراته في التأثير على هذا المتلقي. فالقصة تغدو مؤثره تستثير عفويّاً موقفاً من القارئ نفسيّاً أو سلوكيّاً. فالكاتب لا يأمر ولا ينهى ولكنه يضع القارئ مثلاً في موقف رفض أو قبول, وقد يثير إعجابه أمرٍ إيجابي فيقبل عليه، ويخلق عنده نوعاً من التعاطف مع النموذج البشري فإذا به يحبّه ويقدّر فيه فضائله أو يكرهه ويمقت مخازيه. إن الكاتب الواقعي لا يخاطب القارئ مباشرة بل من وراء حجاب يثير المشكلة وينسحب تاركاً الحكم للقارئ بعيداً عن الخطابة والوعظ. وحين يعمد الكاتب إلى التقرير والهيمنة تهبط قيمة أدبه.
إن الكاتب يعمل على تقوية الشخصيّة وإشعار القارئ بأنه مسؤول عن مصيره ومصير مجتمعه ومشارك للكاتب في البحث عن الأسباب والدوافع وإيجاد الحلول… نعم. قد يوحي الكاتب ويمهّد ويرهص ولكن من خلال اختياراته ووصفه وسرده…. وهذا لا يتنافى والحياد. (14)..
3- التحليل: أي البحث عن العلل والأسباب والدوافع والنتائج فلكل ظاهرة اجتماعيّة سبب, والظاهرة الاجتماعية كالظاهرة الطبيعيّة تخضع لمبدأ السببيّة. وللظواهر المتماثلة أسباب متماثلة، وإذن فهنالك قانون أو قوانين تختفي وراء الظواهر والأسباب. والأديب الواقعيّ لا يعرض الظاهرة أو المشكلة مجرّدة, بل يبحث عن سببها ويوجّه النظر إليه ليصل بالقارئ إلى القوانين المحركة للمجتمع التي تكون من طبيعة اقتصاديّة أو سياسيّة أو دينيّة أو سلطويّة… وبهذا يزداد وعي القارئ واستبصاره وقدرته على التحليل والتأمّل والملاحظة والاستقراء, ويصبح مؤهّلاً لوعي الواقع وتفسيره وقادراً على تغييره. ولكنْ.. كيف؟ وفي أيّ اتجاه؟ هذا ما لا يقوله الكاتب.(15).
ثانياً: الواقعيّة الطبيعيّة:
مع نهاية القرن التاسع عشر, ظهر تيار للواقعيّة سمي بالواقعيّة الطبيعيّة, أو بالمذهب الطبيعي. وهو فرعٌ للواقعية الأمّ تكوّن على يد “إيميل زولا”، ولم يجر تحديد هويّته إلا في القرن العشرين. وتتميز هذه المدرسة بالخصائص الآتية:
1- المبالغة في التزام الواقع الطبيعي إلى درجة الاهتمام بالأمور القبيحة والمقرفة والوضيعة، والمكاشفة الجنسيّة، والألفاظ البذيئة, بدعوى أنّ ذلك من تصوير الواقع الحقيقيّ تصويراً علميّاً أميناً لا مواربة فيه. فلا داعي لتحريمها أو الترفع عنها.. وقد ظهرت في هذا الاتجاه الكوميديّا الطبيعيّة وما سميّ بالمسرح الحرّ، الذي كان لا يعبأ بأي نقد أو رقابة سوى حكم الجمهور، وقد بالغ في التشاؤم وعرض المخازي واستخدام اللغة المكشوفة البذيئة والعاميّة حتى أصبح ممجوجاً، وسرعان ما انسحب أمام المسرح الواقعي المتفائل.(16).
2- الإخلاص الكامل للعلم الطبيعي والفلسفة الماديّة والوضعيّة، والنأي التامّ عن الغيبيّة والمثاليّة، والتمسك بالتفاؤل والأمل, واليقين بانتصار العلم والحب وسيادة الحريّة والديموقراطيّة والعدل والأخوّة والمساواة. وتصوير العالم من الوجهة العقلانيّة الماديّة فقط. لقد ضحى هذا التيار الواقعي بالدين وحلَّ رجل العلم والتكنولوجي مكان القسّ، ولم يكتف بذلك، بل أخذ هذا التيار يهاجم الكنيسة والمنطلقات الدينيّة والسخرية منهما، ولا سيّما فيما يخصّ الجنس والمكافأة الأخرويَّة للفقراء…!
فالدين عنده معوّق للتقدم، والفقراء والعمال والفلاحون لا دينيون, والإله مات في زعمهم. وقد أضاف زولا إلى هذا النهج المعطيات الفرويديّة في التحليل النفسيّ كعقدة أوديب (عشق الولد أمَّهُ) وعقدة إليكترا (عشق البنت أباها) وكون الجنس المحرك الأساس العميق للسلوك، واكتشاف عالم الباطن اللاشعوري, كما أضاف تأثير البيئة والوراثة في تكوين الطباع وضروب السلوك. فبدت رواياته السليلة الشرعيّة للعمل التجريبي الذي تطوّر على يد كل من (الفيلسوف والمؤرخ والناقد الأدبي والفني الفرنسي إيبوليت تين – وعالم التاريخ الطبيعي البريطاني داروين- وعالم الاجتماع والفيلسوف الاجتماعي الفرنسي، الذي أعطى لعلم الاجتماع الاسم الذي يعرف به الآن أوغست كومت – …, و عالم اجتماع والأنثروبولوجي الفرنسي كلود ليفي شتراوس- وفرويد…(17). هذا مع تأكيدنا بأن ليس كل ما جاء به هولاء في مجال العلم مرفوضاً, بل هناك جوانب إيجابيّة كثيرة يمكن الاتكاء عليها وتوظيفها في مجال النقد الأدبي بشكل خاص وبقية العلوم الإنسانيّة والفكريّة بشكل عام.
ثالثاً: الواقعيّة الاشتراكيّة:
وتسمَّى أيضاً الواقعيّة الجديدة. وقد نشأ هذا المذهب منذ البداية رداً على الرومانسيّة والواقعيّة الغربيّ والواقعيّة المتشائمة والطبيعيّة السطحيّة، هذا وقد نمت وانتشرت مع اتساع الدراسات الاشتراكيّة والتطبيق الاشتراكي. ولما كانت الاشتراكيّة في بعدها الفكري- (النظريّة الماركسيّة) – نظرةً فلسفيّةً واجتماعيّة تسعى لصياغة معرفة شموليّة للحياة, فقد اهتمت في أحد أنساق توجهاتها المعرفيّة بالأدب الواقعيّ, ووجهته وجهةً خاصّةً تناسبها، ووجدت فيه خير مصوّر للواقع وخير وسيلة لحليل الواقع وإعادة تركيبه, والأهم أنها وجدت فيه باعثٍاً للوعي وحافزاً إلى التغيير باتجاه التقدُّم. ومن هنا نشأت الواقعيّة الاشتراكيّة في الأدب وأصبحت مدرسةً عالميّة لها منهجها العقائدي المتميّز الذي تمّ من خلاله استخلاص مدرسةٍ نقديّة سميّت بمدرسة الواقعيّة الاشتراكيّة. وقد تبلورت معالمها في الثلاثينيات من القرن العشرين.(18).
وتتلخص سمات المدرسة الواقعيّة الاشتراكيّة في الأدب بالخصائص الآتية:
1- إنها تنطلق من الواقع الماديّ أو ما يسمى بالوجود الاجتماعي, من خلال فهمٍ عميقٍ لبنية المجتمع والعوامل الفعالة فيه, أي مستوياته الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والفكريّة, وما يحيط بها أو يتفاعل في داخلها من تناقضات وصراعات بين المكونات الطبقيّة لبنية المجتمع, ستفضي إلى التغيير بالضرورة. فالواقع هو الصادق الوحيد والقاعدة العلميّة الموضوعيّة. والفكر هو نتاج الواقع, وهو تعبير هادئ له, وبين الواقع والفكر علاقة جدليّة ذات تأثير متبادل, فكل طرف يؤثر في الآخر, يغنيه ويتأثر به.(19).
2- الأديب طليعة مجتمعه بما أوتي من مؤهلاتٍ فكريّة وفنيّة ووعيٍ للعالم ومؤهلاتٍ مهاراتيّة تمكّنه من التأثير في الأفكار والعقائد والقناعات والسلوك. فهو صاحب رسالة جوهريّة إيجابيّة تهدف إلى تطوير وتنمية الفرد والمجتمع معاً, لبناء مستقبلٍ أفضل لهما. فالأدباء (مهندسو النفس البشريّة), كما الفلاسفة مهندسو البناء الاجتماعي. ولذلك لابد لهم من رؤية مستقبليّةٍ واضحة لما يجب أن يكون.
إن الأديب في المنهج الواقعي الاشتراكي, لا يكتفي في تصوير الواقع, بل لابد له من تحليله واستخلاص العوامل الفعالة الضروريّة في إعادة صياغته خدمة للإنسان، وهنا تبرز رسالة الكاتب وإعلاء شأن الإرادة الإنسانيّة ونضالها العنيد داخل بنية المجتمع الطبقيّة بغية تغيير المجتمع من أجل تحقيق العدالة والحريّة والمساواة. وعلى هذا الأساس فالواقعيّة الاشتراكيّة متفائلة، تؤمن بانتصار الإرادة الجماهيريّة التي تتجه دوماً في طريق الحق والخير وتتمكن من إعادة بناء المجتمع الجديد التقدمي.(20).
3- الواقعيّة الاشتراكيّة إنسانيَّة وعالميّة تؤمن بوحدة قضايا الشعوب ووحدة نضالها في سبيل التحرّر الاجتماعي والسياسي والثقافي. وتدين أشكال الاستعمار والاستغلال والفردية والتمييز العنصري والدينيّ والثقافة الجموديّة. وترى أن القوميّة جسرٌ إلى العالميّة، وترفض الاعتداء والتسلّط والحروب, وهي تربط بين النضال القومي والنضال الاشتراكي.
4- أما على مستوى الأسلوب والأسلوبيّة في صياغة النصوص الأدبيّة الابداعيّة, فهي لا تهملُ المقومات الفنيّة, كالمقدرة اللغويّة والأسلوبيّة وبراعة التصوير الطبيعي والنفسيّ وحرارة العاطفة, والمقومات الخاصة بكل جنسٍ أدبي. وهي تتجه إلى الجماهير في خطابها أو نصوصها الأدبيّة والفنيّة بشكل عام, ولذلك تختار اللغة السهلة المتداولة, ولا تقيم وزناً لأدب غير قادر على تحريك عواطف المتلقي وإثارة أحاسيسه إيجابيّاً. وهذا يتطلب من الأديب والفنان أن يربط ربطاً جدليّاً بين المضمون والشكل.(21). لا شك أن من أهم سلبياتها برأيي هو الموقف الآيديولوجي الجمودي في التعامل مع المختلف وتحقير أو تسفيه آرائه أو حتى محاسبته عليها في الدول التي تبنت الاشتراكيّة نظاماً سياسياً لها.
نظرية الانعكاس:
أسسها جورج لوكاش، ويريد من هذه النظرية المعرفة الحقيقيّة للواقع والحياة الاجتماعيّة، ولكي يكون هذا الانعكاس واضحًا لا بد من صياغته في قالب فني، وبذلك يخفف من صرامة التصوير الدقيق، فهو يهتم بتوضيح آليّة المجتمع للقارئ من خلال تقسيم بنية أي المجتمع إلى بنائين, بناء تحتي ويشمل قوى الانتاج وعلاقات الانتاج والعلاقة بينهما علاقة جدلية, فكلما كانت قوى الانتاج بدائيّة كانت علاقات الإنتاج بدائيّة والعكس صحيح, أما البناء الفوقي فهو الوعي أو الأيديولوجيا, وهي انعكاس للواقع أي للبناء التحتي, فكلما كان البناء التحتي متخلفاً كان الوعي متخلفاً بالضرورة والعكس صحيح أيضاً. وعلى هذا الأساس, تنطلق هذه الواقعية من فكرة أن الأدب ينبغي أن يُدرس من خلال ارتباطه بالواقع التاريخي والاجتماعي. (22).. وهذا المنهج سوف نخصص له دراسة خاصة به لتوضيح عوامل نشوئه وآلية عمله وأهم سماته وخصائصه.
المنهج البنيوي التكويني:
نادى به “لوسيان غولدمان”، الفيلسوفً وعالم الاجتماع الفرنسي, وهو من أصل يهودي روماني. جمع مبادئ البنيويّة إلى مبادئ الماركسيّة، فرأى أن الأدب يُدرس من خلال فهم عناصر العمل الأدبي، ومن ثم ربط العمل الأدبي بالبنى الفكريّة والاجتماعيّة التي ينطلق منها العمل الأدبي ودراسته في ضوء هذه المعطيات. أو بتعبير آخر, إن المنهج البنيوي التكويني يقوم على تحليل النصوص الأدبيّة من منظور اجتماعي إلى حد بعيد. أي لا ينظر للنص بانعزاليّة تامّة عن الواقع الذي أنتج فيه، بل يرى أنّ الأدب تعبير عن الواقع، وقد حاول هذا المنهج الدمج بين الشكل والمضمون، وبذلك يُمكن للدال الواحد إنتاج مدلولات مُختلفة باختلاف المُتَلقّين. (23).
واقعيّة “أدورنو”:
لقد كان لـ “تيودور أدورنو” (فيلسوف وعالم اجتماع وعالم نفس وموسيقي ألماني، اشتهر بنظريَّاته النقديّة الاجتماعيّة.) وله رأي مختلف عن رواد الواقعيّة، إذ يرى أن الفن يحمل معرفة متناقضة مع العالم الحقيقي، لكن هذا لا يعني أنه ضد الواقعيّة، بل يعني أن الأدب يجب أن يكون بمثابة هزّة للرؤية الكلاسيكيّة للواقع، وخروج عما هو مألوف في الأدب الواقعي.
“ميخائيل باختين”:
و(هو فيلسوف ولغوي ومنظر أدبي روسي): فرأيه في الواقعيّة لم يبتعد كثيرًا عن الشكلانيين الروس، الذين نظروا إلى اللغة على أنها أساس العمل الأدبي، إلا أنه اختلف عن الشكلانيين كونه نظر إلى اللغة والأيديولوجيا كشيء متصل بالواقع ولا يمكن فصلهما، وأن اللغة هي وسيلة للتواصل والخطاب الاجتماعي.(24).
أعلام المنهج الواقعي في النقد الأدبي:
في الأدب الغربي والروسي:
هناك أسماء كثيرة من الأدباء والنقاد ارتبطت بالمذهب الواقعي ومبادئه, وكان لها دور بارز في نشأته وإرساء مبادئ الواقعيّة، ومن أعلام المذهب الواقعي في الأدب الغربي 1- “توماس هاردي”, (روائي وشاعر إنجليزي، وكاتب واقعي من العصر الفيكتوري.). 2- “جورج إليوت”, (وتدعى أيضًا ماري آن أو ماريان)، والمعروفة باسمها المستعار “جورج إليوت”، هي روائيّة وشاعرة وصحفيّة ومترجمة إنجليزيّة وأحد الكتاب البارزين من العصر الفيكتوري ). 3- وهناك “جوستاف فلوبير” (روائي فرنسي، درس الحقوق ولكنه عكف على التأليف الأدبي. كان أول مؤلف مشهور له: « التربية العاطفيّة » (1843 – 1845، ثم « مدام بوفاري » 1857 التي تمتاز بواقعيتها وروعة أسلوبها), 4- “هنري جيمس”,( روائي وناقد بريطاني من أصل أمريكي، يُعد واحدًا من أعظم أساتذة النمط القصصي، فهو مؤسس وقائد المدرسة الأدبيّة الواقعيّة؛ وهو سيد الرواية الأمريكيّة.) 5- “جاك لندن”,( مؤلِّف وصحفي وناشط اجتماعي أمريكي، ومن أوائل مؤلِّفي الأدب الروائي الذين حققوا شُهرة عالميّة وثروة طائلة من كتاباتهم الواقعيّة. ) 6- “تشارلز ديكنز”,( يُعدّ بإجماع النُّقّاد أعظم الروائيين الإنجليز في العصر الفيكتوري، ولا يزال كثيرٌ من أعماله تحتفظ بشعبيّته حتى اليوم. تميَّز أسلوبه بالدُّعابة البارعة، والسخرية اللاذعة.), 7- “أميل زولا”,( هو كاتب وروائي فرنسي مؤثر, يمثل أهم نموذج للمدرسة الأدبيّة التي تتبع الواقعيّة الطبعانيّة أو الطبيعيّة.) . “إرنست همنغواي”. روائى امريكي تميز بواقعيّة أسلوبه, وتأثر به كتاب كثر, تدور قصصه حول الصراع بين الانسان و البيئه القاسيّه مع لمحات من فلسفة العدميّه..) وغيرهم الكثير. (25). وهناك من الكتاب الواقعيين الروس, “مكسيم غوركي”, وهو الذي استطاع أن يعكس مسائل الصراع والتناقضات بين مختلف طبقات المجتمع في روسيا، وذلك بأسلوب أدبي لافت، وبِلُغة واضحة، وفهم عميق لمسألة الإنسان والإنسانيّة. وخاصة في روايته الأم. (26). وهناك “ميخائيل شولوخوف”, الذي تابع ما بدأه “غوركي” في مذهب الواقعيّة، وطوّره حسب متطلبات الثورة الاشتراكيّة، وقد عكس في أعماله الحياة بكل معضلاتها الجديدة التي تعترض طريق التطبيق الاشتراكي بعد الثورة. من أعماله “الدون الهادئ”: وقد نال عليها جائزة نوبل للآداب، وهي رواية ملحميّة يعكس فيها واقع الطبقة العاملة الثوريّة، وقد كان الطابع الإنساني هو المهيمن على صفحات هذه الرواية، وهي من أهم أعمال الأدب العالمي.(27).
أهم الكتاب الواقعيين العرب:
يعد “عمر الفاخوري:” أديباً ومُفكراً وناقداً لبنانيّاً، ورائدًا من روَّادِ المدرسةِ الواقعيّةِ في النقدِ الأدبيِّ الحديث، وعَلَماَ من أَعلامِ النهضةِ في القرنِ العشرين، وكانت له إسهاماتٌ جليلةٌ في التأليفِ والترجمة. عمل الفاخوري كثيرًا لتطوير الأدب الإنساني الواقعي، وقد جمع في مؤلفاته بين الأدب والنضال التحرري ضد العدوان، ولم يكن في كتاباته مقلداً لما أُلّف قبله، إنّما اتّسم بالتجديد وبث الروح الحيّة في هذه المواضيع الواقعيّة.(28). “مواهب الكيالي” من الكتّاب الاجتماعيين السوريين الذي اهتموا بقضايا المجتمع، وكرّس جزءًا كبيراً من حياته للكتابة عن آلام الشعوب، وقد تناول في بعض أعماله الروائيّة صورًا لنضال الشعب السوري ضد المستعمر الفرنسي، وكان له دور مهم في إحياء الواقعية في الأدب العربي.(29). “حنا مينة” كاتب سوري من الطبقة العماليّة الفقيرة، وقد خصّص الكثير من نتاجاته القصصيّة والروائيّة لتطوير أوضاع طبقة العمال والفلاحين، لقد كان مُجدّدًا في هذه الأعمال؛ إذ عكس معاناة تلك الطبقة والمصاعب التي تكابدها في الحياة الاجتماعيّة.(30). “سعيد حورانيّة” ينتمي عمرًا وتاريخًا إلى مرحلة الاحتلال الفرنسي لسورية، وهو بذلك عاش شبابه كله في زمن عاصف عنوانه الأبرز الكفاح من أجل الاستقلال والجلاء، ما جعل السياسة والفكر السياسي حاضرين في عقله وتفكيره وفي التزامه على المستويين الواقعي والأدبي، وظلا حاضرين كذلك طيلة حياته. اشتهر هذا الكاتب الواقعي بواقعيته الصارمة، وقد ركز أيضًا على نضال الطبقة العاملة وكفاح الفلاحين، وكان لأعماله خصائص مهمة تميّزَ بها مثل: وحدة اللغة والأسلوب الرشيق والتناسب بين الموضوع والنص.(31).
وعلى مستوى الوطن العربي أضاً هناك أ: (“الأخوان تيمور: “محمد ومحمود تيمور)” لقد تأثر الأخان تيمور بالمذهب الواقعي الذي انعكس في كتاباتهم القصصيّة والمسرحيّة، مثل: “مسرحيّة العصفور في القفص”، والمجموعة القصصية “ما تراه العيون”.).(32). وهناك “نجيب محفوظ” ( الذي يعتبر أبرز أديب اعتمد الواقعيّة في أعماله الروائيّة الغزيرة، مثل: “القاهرة الجديدة”، “خان الخليلي”، “زقاق المدق”، “السراب”، “ثلاثية بين القصرين، قصر الشوق, والسكريّة”، وقد حرص محفوظ على الاحتفاظ بأسماء الأماكن، وهذا من مؤشرات الواقعيّة وكذلك الاهتمام في مشاكل الطبقتين الدنيا والوسطى اللتين شكلتا غالبية المجتمع المصري. وبعد ثورة 1952م كتب محفوظ أعمالًا واقعيّة تندرج تحت الواقعيّة النقديّة، فقد شرح المجتمع المصري، وانتقد عددًا من المظاهر السلبية، مثل: (الانتهازيّة، الخيانة، النفاق)، ومن تلك الأعمال رواية “اللص والكلاب” التي تجسد واقع ما بعد الثورة بعين ناقدة ورافضة.). (33). وهناك “عبد الرحمن الشرقاوي”، وتعد روايته الشهيرة (الأرض) مثالًا على الواقعيّة الاجتماعيّة، حيث تصور عناء واضطهاد واستغلال الفلاحين وفضح وحشية الإقطاع الزراعيّ في مصر.).(34).
هذا دون أن ننكر حضور كل من (“طه حسين” في كتابه “المعذبون في الأرض” حيث عبر فيه عن رفضه لمظاهر الظلم و الفقر كما مثل الأديب “توفيق الحكيم” في روايته “يوميات نائب في الأرياف” كما ظهرت الواقعيّة أيضا عند “يوسف إدريس” في روايته “الحزم” وعند الأديب “يحيى حقي” في مجموعته القصصيّة “هاء وطيف”. ولم تعد الساحة العربيّة في المغرب العربي ودول الخليج الكثير من الروائيين العرب. كـ”مولود فرعون” من الجزائر على سبيل المثال لا الحصر.).(35).
كاتب وباحث من سوريّة.
d.owaid333d@gmail.com
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
1- (موقع الجامعة المستنصريّة – المذهب الواقعي – تعريف الواقعية -). بتصرف.
2- ( الرشيد بوشعير (1996)، الواقعية وتياراتها في الآداب السردية الأوربية (الطبعة 1)، دمشق: دار الأهالي، صفحة 7. بتصرّف.).
3- (موقع سطور –كوم – المذهب الواقعي في الأدب – تمت الكتابة بواسطة: إسراء أبو رنة.). بتصرف.
4- (موقع الألوكة – نشأة الواقعية – قحطان بيرقدار -).بتصرف.
5- (سعد البازعي (2004)، استقبال الآخر (الطبعة 1)، المغرب:المركز الثقافي العربي، صفحة 135.). بتصرف.
6- ( سعد البازعي (2004)، استقبال الآخر (الطبعة 1)، المغرب:المركز الثقافي العربي، صفحة 135.). بتصرف.
7- (المذهب الواقعي في الأدب – تمت الكتابة بواسطة: إسراء أبو رنة.). بتصرف.
8- (موقع سهل – المذهب الواقعي في الأدب- زينب عمر.). بتصرف.
9- (موقع سهل – المذهب الواقعي في الأدب- زينب عمر.). بتصرف.
10- ( موقع إجابة – ما هي الخصائص الرئيسية للنقد الأدبي التحليلي؟ ). بتصرف – و(يرجع أيضاً: ما هو المذهب الواقعي في النقد وما هي خصائصه – كيرو البدري – جريدة لحظات نيوز). بتصرف.
11- ( موقع إجابة – ما هي الخصائص الرئيسية للنقد الأدبي التحليلي؟ ). بتصرف.
12- (صلاح فضل (1980)، منهج الواقعية في الإبداع الأدبي (الطبعة 2)، صفحة 5-6.). بتصرّف.
13- (الجامعة المستنصرية – تعريف الواقعية.) بتصرف.
14- المرجع نفسه – بتصرف.
15- المرجع نفسه – بتصرف.
16- (موقع – المرجع الالكتروني للمعلوماتيّة -الواقعية الطبيعية – عبد الرزاق الأصفر .) بتصرف.
17- المرجع نفسه – بتصرف.
18- (صلاح فضل (1980)، منهج الواقعية في الإبداع الأدبي (الطبعة 2)، صفحة 5-6. بتصرّف.). بتصرف.
19- (يوسف نور عوض – نظرية النقد الأدبي الحديث (الطبعة 1)، (1994) – القاهرة – دار الأمين، صفحة 33.). بتصرّف.
20- (عن سمات وخائص الواقعيّة الاشتراكية – يراجع – موقع المرجع الالكتروني للمعلوماتيّة. الواقعية الاشتراكية – المؤلف : عبد الرزاق الأصفر.). بتصرف,
21- (عن سمات وخائص الواقعيّة الاشتراكية – يراجع – موقع المرجع الالكتروني للمعلوماتيّة. الواقعية الاشتراكية – المؤلف : عبد الرزاق الأصفر.). بتصرف, ويراجع أيضاً – ما هو المذهب الواقعي في النقد وما هي خصائصه – كيرو البدري – جريدة لحظات نيوز).
22- (غسان السيد ووائل بركات (2003)، اتجاهات نقدية معاصرة (الطبعة 1)، صفحة 78. بتصرّف.
23- (ماجد علاء الدين (2015)، الواقعية في الأدبين الروسي والعربي (الطبعة 1)، دمشق:دار رسلان، صفحة 17-113-190.). بتصرّف.
24- ).( غسان السيد ووائل بركات (2003)، اتجاهات نقدية معاصرة (الطبعة 1)، صفحة 78. بتصرّف.
25- (موقع إجابة – من هم أبرز الكتاب الواقعيين في التاريخ) – و(يراجع أيضاً حول التعريف بهؤلاء الكتاب الواقعيين في الغرب – موقع الوكيبيديا) بتصرف.
26- (رواية الأم – إصدار دار التقدم – موسكو.).
27- (موقع المعرفة – ميخائيل شولوخوف – كتابات مخنارة). بتصرف.
28- (موقع هنداوي – المساهمون – عمر الفاخوري.) بتصرف.
29- (موقع الطريق – من سوريا إلى روسيا.. رحلة اكتشاف ”مواهب الكيالى” بشرى عبد المنعم.). بتصرف.
30- (موقع العرب – حنا مينه روح البحر التي قهرت الألم وحلمت بالسعادة – نضال قوشحة -). بتصرف.
31- (ضفة ثالثة منبر ثقافي عربي – ذكرى سعيد حورانية.. الكاتب الاجتماعي – راسم المدهون. بتصرف.
32- (موقع موضوع – رواد المدرسة الواقعية في الأدب العربي. نائلة الخطيب. ).
33- (المرجع نفسه.).
34- (المرجع نفسه).
35- (الجامعة المستنصرية – بحث عن تعريف الواقعية).