عقيدة ترمب بين العزلة والاندماج

إميل أمين

في أعقاب الضربة التي وَجَّهتها الطائرات الأميركية للمفاعلات النووية الإيرانية، ارتفع عاليًا في الداخل الأميركيّ، جدل واسع حول الرئيس ترمب، وما إذا كان صاحب عقيدة بالنسبة للسياسات الخارجية الأميركية، أم أنه يتحرك من منطلق الحدس والحدث ليس أكثر.
الجواب في واقع الأمر يقتضي الرجوع إلى الوعود التي قَطَعها سيد البيت الأبيض على نفسه، في بداية ولايته الثانية، وفي مُقَدِّمها إنهاء الحروب وإحلال السلام.
تبدو الإشكالِيّة الآنِيّة والتي انفلش الحوار من حولها في الداخل الأميركي، تدور حول ما إذا كان على الولايات المتحدة في عهده أن تنعزل عن قضايا العالم الخارجي، أو تندمج فيها، ولهذا نرى شقاقًا وفراقًا واسعَيْن بين تيارَيْن داخل الحزب الجمهوري نفسه، وقد كان منهم من رفض فكرة الهجوم على إيران، مثل ستيف بانون، القطب اليميني الأميركي الأشهر، والذي اعتبرها حرب نتانياهو وليس حرب ترمب، في حين حاول التيّار الآخر الدفاع عن الرئيس بوصفه صاحب عقيدة .. ماذا عن تلك العقيدة؟
المثير في الأمر أن ترمب نفسه لم يُقدِّم ذاته على أنه صاحب فكر سياسيّ مُؤَدْلَج بعينه، وهو أمرٌ طبيعي يَتَّسِق مع بنيته الفكرية كرجل أعمال، بعيد كل البعد عن المناورات والمداورات السياسية.
المدهش في المشهد أنّ مَن سعى إلى بسط هذا المفهوم هو نائبه جي دي فانس، المثقف السياسي بامتياز، والذي تعهدته ولا تزال جماعات ذات طبيعة فلسفية وسياسية تعمل وراء الكواليس، تمتد من عند “الأوبس داي” ولا تنتهي بمؤسسة “التراث” التي تُعَدُّ العقلَ الفاعل لهذه الإدارة.
على أنّ ما فَجَّرَ الحديثَ حول فكرة عقيدة ترمب، هو الخلاف الكبير في تقييم الضربات الأميركية للمفاعلات النووية الإيرانية، وما إذا كانت “المهمة اكتملت” بالفعل، أم أن ترمب فتح صندوق “باندورا”، ما يمكن أن يَجُرَّ الولايات المتحدة إلى حالة حرب، تضحي عَمَّا قليل مقدمة طبيعية لمستنقع عسكري جديد للولايات المتحدة الأميركية، لا يقل ضراوة عن مستنقعَيْ فيتنام وأفغانستان، في سبعينات وثمانينات القرن المنصرم على التوالي.
القصة باختصار غير مُخِلٍّ، بدأت من عند تقريرين متضادَيْن، الأول صدر عن “استخبارات الدفاع الأميركية DIA”، ويحمل تشكيكًا واسعًا في نتائج الهجوم، وأنه لم يُنْه الحلم النووي الإيراني، وذلك بناء على معلومات تمَّ جَمْعُها من الداخل الإيراني بعد 24 ساعة من القصف الجوي، وأن جُلَّ ما تم إصابته لا يتجاوز المداخل الخاصة بالمفاعلات، فيما الجسم الصلب لا يزال سليمًا على أعماق كبيرة مختلف في تقديرها.
أما التقرير الثاني، فيرجع إلى وكالة الاستخبارات المركزيّة الأميركية CIA، والتي حسم مديرها وبتكليف المشهد بقوله إن منشآت إيران قد تمَّ تدميرها عن بكرة أبيها دفعةً واحدةً.
التقرير الأول يعطي قارءه انطباعًا بأنّ إيران ربما تحتاج لبضعة أشهر فقط كي تعيد من جديد بناء ما تمَّ هدمه، أما الثاني فيفيد بأن الإيرانيين ربما يحتاجون إلى عامٍ أو عامَيْن فقط لإعادة تشغيل مفاعلاتهم والبدء من جديد في الدوران مع العالم الخارجي ضمن تلك الدائرة المُفرَغة.
هنا يطفو على السطح مضمون “عقيدة ترمب” والتي تحدث عنها دي فانس، وكأنه يحاول تجسير الهوة بين اليمين المتشدد داخل الحزب الجمهوري، والآخر العقلاني الرافض لتلك الضربة.
فكرة عقيدة ترمب التي حاول نائبه التسويق لها تنطلق من أن ترمب لا يريد نزاعات طويلة الأمد، تستهلك القدرات وتستنزف الموارد، وإنما ضربات جراحية انتقائية، بهدف تغيير المسار وليس إنهاء الأنظمة.
يعتقد دي فانس أنّ غالبية إن لم يكن كل تجارب الولايات المتحدة الأميركية العسكرية، بعد الحرب العالمية الثانية، والانتصار المُدَوِّي لها في أوربا، أعتبرت انتكاسات وانكسارات، لا انتصارات.
من هذا المنطلق يؤمن دي فانس أنّ ترمب وفيما يتصل بإيران، لم يتجاوز هذا التقدير، بمعنى أنه لم يَسْعَ ولن يسعى حكمًا إلى نزال بري وتدخل عسكري على الارض، فقد تعلم الجميع من درس العراق الأخير بصورة خاصة.
غير أن هناك الكثيرين في الداخل الأميركي، يعتقدون أن دي فانس ألقى برداءه هو على جسد ترمب الذي يتعرض لطعنات من الكثيرين، ومنهم أعضاء من الجمهوريين في مجلس الشيوخ يشككون في رواية ترمب حول القضاء المبروم على برنامج إيران النووي.
من جهة اخرى عَزَّزت رواية الفاينانشيال تايمز، عن قيام إيران بتوزيع مخزونها من اليورانيوم المُخصَّب، والذي يتجاوز 400 كيلوغرام، بنسب تصل إلى 60% على عدد من الأماكن السرية، والتي لا يعرفها أحد، حتى الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وهو أمر يسير إذا رغبت السلطات الإيرانية في دولة تبلغ مساحتها 1.64 مليون كيلومترمربع.
غير أن هذه الرواية ربّما تمثل خنجرًا في خاصرة “عقيدة ترمب”، لأنها باختصار غير مخلٍّ، تفتح الباب واسعًا لمعركة واسعة مع الإيرانيين، خلال السنوات القادمة، لا سيما أن ترمب لديه حوال ثلاثة أعوام ونصف في البيت الأبيض، وهذا معناه أنه لن يستطيع الفكاك من قدر الحرب.
في مؤتمر حلف الأطلسي في لاهاي قبل بضعة أيام، بدا ترمب وكأنه يلمح بالفعل إلى العودة مرة أخرى إلى استخدام سيناريوهات الفوة العسكرية، إذا عاودت إيران مشاغبة فكرة الحصول على الطاقة النووية من مفاعلاتها مجهولة المصير حتى الساعة.
والشاهد أن النقاش اليوم حول أميركا الانعزالية وأميركا المندمجة مع العالم الخارجي، قد أخذ مسارًا مغايرًا وربما مثيرا لا سِيَّما بعد أن علا صوت عضو الكونجرس الديمقراطية اليسارية الشابة ألكسندريا كورتيز بعزل ترمب، الأمر الذي لقى هوى كبيرً عند نسبة غالبة من النواب أو الشيوخ.
إشكالية اندماج أميركا أو انعزالها، تعود بنا في واقع الأمر إلى سؤال أكثر عمقًا: “هل أميركا أمة يمكن الاستغناء عنها، أم لا يمكن؟”
هذا التساؤل تصَدَّتْ له “كوري شاك” من معهد أميركا إنتربرايز، والتي شغلت منصبًا في مجلس الأمن القومي ووزارة الخارجية الأميركية خلال إدارة جورج دبليوبوش.
عند شاك أن واشنطن ربما عليها التعاون والإلتحام مع العالم، عبر الشراكات، لا من خلال الهيمنة والسيادة، وإلّا فإنّها ستجد نفسها أمام أكثر من كعب أخيل يقودها إلى مواجهات عسكرية قاتلة في الكثير من البقاع والأصقاع حول العالم، قد تكون إيران اضعف تلك النقاط، مقارنة بالصدام الذي يمكن أن يجري بين لحظة وأخرى في بحر الصين الجنوبي، أو فوق جزيرة تايوان حال رغبت بكين في إعادة ضمها إليها بالقوة العسكرية، عطفًا على المخاوف المزعجة من أن تمتد أطماع القيصر بوتين لجهة المزيد من أراضي أوروبا الشرقية ودول البلقان.
ما بين أنصار العزلة الذين يقطعون بأن واشنطن ليست شرطي العالم أو دركه، وبين الذين يرون القدر الواضح لأميركا في إعادة رسم مسارات نظامٍ دوليّ جديد، تبدو هناك فترة ضبابيّة تغشى الداخل الأميركي، ومن علائمها التضارب في تقديرات الاستخبارات مؤخرًا، بل إن مديرة مجمع الاستخبارات الأميركية تولسي غابارد عينها، قد اختلفت مع ترمب حول عدم سعي ايران لامتلاك سلاح نووي الأمر الذي ينذر بمغادرة قريبة لها لفريق الرئيس بعد أن يهدأ غبار المعركة.
الخلاصة أنّ الأمر يتجاوز ترمب إلى روح أميركا المأزومة وهو أمر طبيعي في ظل قطبية منفردة بمقدرات العالم حتى الساعة.