«مسار وهران 2025… إفريقيا أمام ساعة الحقيقة والجزائر في قلب معركة السلم والأمن»

الجزائر: بن معمر الحاج عيسى

شهدت الجزائر العاصمة يومي 01 و02 ديسمبر 2025 اختتام أشغال الطبعة الثانية عشرة للندوة رفيعة المستوى حول السلم والأمن في إفريقيا، المعروفة بـ مسار وهران، في ظرف إقليمي ودولي معقد أعاد طرح سؤال الأمن الإفريقي بحدة غير مسبوقة، وأكد أن القارة باتت تقف على حافة تحولات خطيرة تستوجب إعادة رسم استراتيجية جديدة للسلم والأمن، ليس فقط على مستوى الاتحاد الإفريقي، بل في العلاقة مع الأمم المتحدة والفاعلين الدوليين. وقد جاءت هذه الدورة لتؤكد أن إفريقيا أمام مفترق طرق تاريخي: فإما أن تستعيد زمام المبادرة وتصوغ حلولاً إفريقية لمشاكلها، أو تبقى رهينة للتدخلات الخارجية والصراعات بالوكالة. وفي قلب هذه التحولات، برزت الجزائر بقوة باعتبارها الدولة الأكثر ثباتاً في مواقفها والأقدر على لعب دور قيادي في إعادة بناء هندسة الأمن الإقليمي، وهو ما جعل من مسار وهران منصة محورية لإعادة توجيه البوصلة الإفريقية نحو الاستقلالية الاستراتيجية، والتكامل الأمني، والتنسيق الحقيقي بين القوى الإفريقية داخل مجلس الأمن.

جاءت طبعة 2025 وهي محاطة بسياق حساس يشمل توسع رقعة النزاعات الداخلية، وتمدد الجماعات الإرهابية في الساحل، وتنامي التنافس الدولي على القارة، في وقت يشهد فيه العالم إعادة تشكل واضحة لموازين القوى. وفي هذا الجو المشحون، حملت الجزائر مسؤولية ثقيلة، إذ لم تكن مجرد بلد مضيف بل كانت الدولة التي صاغت الإطار العام للنقاش، وحددت الأولويات، وسعت لتوحيد وجهات نظر الدول الإفريقية، لاسيما تلك التي ستشغل عضوية مجلس الأمن لعامي 2025 – 2026 في إطار مجموعة A3/A3+. لقد كان واضحاً أن الهدف الأساسي هو صناعة موقف إفريقي موحد في مواجهة القضايا الدولية الكبرى، وعلى رأسها الإرهاب، الانقلابات، الأزمات السياسية، والنزاعات الإقليمية التي تتغذى من التدخلات الخارجية، فضلاً عن الدفاع عن إصلاح مجلس الأمن الدولي والحصول على تمثيل دائم وعادل للقارة.

ركزت الندوة على أربعة محاور مركزية شكلت جوهر النقاش الدبلوماسي.
المحور الأول كان يخص تقييم أداء مجموعة A3 داخل مجلس الأمن خلال السنوات الماضية، والتحديات التي واجهتها، وأهمية الانتقال من دور “المؤثر المحدود” إلى “فاعل مقرر”. وقد شدد المشاركون على أنّ نجاح المجموعة لا يتحقق إلا عبر التنسيق الاستراتيجي، وتوحيد الخطاب، وتجاوز التشتت الذي لطالما أعاق الصوت الإفريقي داخل الأمم المتحدة. وفي هذا السياق، لعبت الجزائر دوراً محورياً في صياغة مقترحات واقعية لتعزيز فعالية المجموعة، خاصة في القضايا ذات الأولوية الإفريقية مثل التمويل المستدام لعمليات حفظ السلام، ودعم الوساطة الإفريقية، وتعزيز الشراكة بين مجلس الأمن والاتحاد الإفريقي.

أما المحور الثاني فركّز على التحديات الأمنية المتسارعة التي تضرب القارة. فقد أكد التقرير الافتتاحي للندوة أنّ إفريقيا تواجه أخطر موجة تهديدات منذ مطلع القرن، أبرزها تصاعد الانقلابات العسكرية في غرب إفريقيا، استمرار النزاعات العرقية والجهوية، انتشار الإرهاب في الساحل والقرن الإفريقي، وتمدد شبكات الجريمة المنظمة وتهريب البشر والسلاح. هذا إلى جانب انتشار الصراعات غير التقليدية مثل الهجمات السيبرانية، وتأثيرات التغيرات المناخية على الأمن الغذائي، وتدهور البنى الاقتصادية للعديد من الدول الهشة. لقد أجمع المتدخلون على أن الأمن في إفريقيا لم يعد مجرد ملف عسكري بل أصبح منظومة معقدة تتداخل فيها السياسة والاقتصاد والمناخ والرقمنة والتنافس الدولي، وهو ما يستدعي استراتيجية أكثر شمولاً وتناغماً.

المحور الثالث خصص لمناقشة التدخلات الأجنبية المتزايدة في إفريقيا، حيث اتفق المشاركون على أن القارة أصبحت ساحة مفتوحة للصراعات الجيوسياسية بين القوى الكبرى، وأن الدول الإفريقية تدفع ثمن هذا التنافس عبر مزيد من عدم الاستقرار، واستخدام مواردها الحيوية كورقة مساومة. وقد برز هنا بوضوح موقف الجزائر، الداعي إلى تحرير القرار الإفريقي من التأثيرات الخارجية، وتعزيز السيادة الوطنية للدول، والاعتماد على الوساطات الإفريقية في حل النزاعات بدل تدويلها. هذا الخطاب، الذي دافعت عنه الجزائر بقوة، وجد صدى واسعاً لدى العديد من الوفود، لاسيما تلك التي أنهكتها التدخلات الأجنبية وفشلت في الوصول إلى حلول داخلية متوازنة.

وفي المحور الرابع، تم التركيز على آفاق التعاون الإفريقي – الإفريقي بعد مسار وهران، وعلى ضرورة تحويل توصيات الندوة إلى خطوات عملية وليس مجرد بيانات دبلوماسية. وقد طُرحت مجموعة من الآليات الجديدة أبرزها: إنشاء جهاز دائم لمتابعة تنفيذ توصيات مسار وهران، تعزيز دور مجلس السلم والأمن، دعم الدول الهشة بخطط تنمية متكاملة تتداخل مع الأمن، الضغط لإصلاح مجلس الأمن وفق الموقف الإفريقي الموحد، وتفعيل قوات الاحتياط الإفريقية من خلال تدريب وتمويل مستدام. كما تم التأكيد على ضرورة توسيع الشراكات الاقتصادية داخل القارة، لأن غياب التنمية يعتبر الوقود الأول لكل أزمة أمنية. لقد كان واضحاً أنّ إفريقيا مطالبة اليوم ببناء نموذج تكاملي جديد يربط الأمن بالاقتصاد، ويجمع بين الدبلوماسية والقدرة الميدانية على التدخل، وإلا ستبقى رهينة للاضطرابات.

في كل هذه المحاور، تميز الدور الجزائري بوضوح لافت. فمنذ سنوات، اختارت الجزائر أن تكون الدولة المدافعة عن “الحلول الإفريقية للمشاكل الإفريقية”، مستندة إلى تجربتها الخاصة في مكافحة الإرهاب والمصالحة الوطنية، وإلى سجلها الدبلوماسي الحافل بالوساطة وحل النزاعات. وفي هذه الدورة، حافظت على النهج نفسه، لكنها قدمت رؤية أكثر جرأة ووضوحاً، تؤطرها ثلاثة مبادئ مركزية:
أولها أنّ السيادة الإفريقية فوق كل اعتبار، وأنه لا يجوز لأي دولة مهما كان حجمها أن تفرض خياراتها على القارة.
ثانيها أنّ الأمن لا يمكن أن يتحقق بدون تنمية، وأن استمرار هشاشة الاقتصاد الإفريقي هو الخطر الأكبر الذي يهدد مستقبل القارة.
وثالثها أنّ إفريقيا لا يجب أن تكون ساحة للآخرين، بل فاعلاً دولياً يمتلك صوته ومكانته وتأثيره.

تمكنت الجزائر خلال هذه الطبعة أيضاً من تعزيز مكانتها القيادية داخل مجموعة A3، حيث أدارت جلسات النقاش المفصلية، واقترحت حزمة توصيات عملية كان أبرزها: ضرورة تمويل ذاتي لعمليات حفظ السلام عبر آلية إفريقية خالصة، تعزيز قدرات الاتحاد الإفريقي في التدخل السريع، إدماج الأمن المناخي ضمن استراتيجية السلم، إطلاق برنامج لتدريب الدبلوماسيين الأفارقة على آليات عمل مجلس الأمن، وتطوير المنظومة القانونية الخاصة بمكافحة الإرهاب من خلال تبادل الخبرات والتكوين. هذه المقاربة الاستباقية منحت الجزائر موقعاً محورياً داخل الندوة، وأظهرت قدرتها على قيادة النقاش وصياغة الرؤية.

لقد انتهت أشغال مسار وهران 2025 برسالة واضحة: إفريقيا على أعتاب مرحلة جديدة، مرحلة تتطلب الشجاعة والجرأة والقدرة على اتخاذ القرار بعيداً عن الضغوط الخارجية. فالقارة ليست مجرد فضاء استراتيجي تتنافس عليه القوى العظمى، بل هي قارة تمتلك مؤهلات ضخمة، وثروات هائلة، وشعوباً شابة، ودولاً تستطيع – إذا توحدت – أن تشكل كتلة دولية مؤثرة. لكن هذا لن يتحقق إلا عبر تعزيز مؤسسات السلم الإفريقية، وتحصين الديمقراطيات الوليدة، ورفض منطق الانقلابات، ومحاصرة الإرهاب، وتحقيق التنمية الشاملة.

وفي هذا المسار، تبرز الجزائر كدولة قادرة على قيادة التحول الإفريقي نحو الاستقرار، بفضل تجربتها في مكافحة الإرهاب، مكانتها الجيوسياسية، واستقلالية قرارها الدبلوماسي. ولذلك، فإن مسار وهران لم يعد مجرد لقاء سنوي، بل أصبح مشروعاً سياسياً متكاملاً لإعادة بناء القارة من الداخل. والرسالة التي حملتها طبعة 2025 كانت واضحة وصريحة: إفريقيا لن تُبنى إلا بأبنائها، ولن تتقدم إلا بقادتها، ولن تحقق الأمن إلا إذا امتلكت قرارها السيادي بعيداً عن كل أشكال الهيمنة. بهذه الروح، اختتمت الندوة، وبقيت التوصيات معلقة في انتظار التنفيذ، لكن الأمل كبير بأن تتحول هذه الرؤية إلى واقع يعيد للقارة مكانتها ويحميها من الأخطار التي تحيط بها من كل جانب.