كشفت حرب غزة وما رافقها من تطورات ومواجهات عسكرية على جبهات أخرى، عن سياسات وتكتيكات الأطراف الإقليمية والدولية المعنية في عدد من الأمور التي يجب النظر فيها للخروج بخلاصات ودروس مستقاة. فالعديد من الاعتقادات والتقييمات التي كانت قائمة قبل هجوم السابع من تشرين الأول (أكتوبر) تغيّرت بحكم التطورات التي شهدتها المنطقة منذ ذلك الوقت. وأحد أهم العوائق التي توقف التقدّم في ملفات إقليمية عدة اليوم، هو تمسّك بعض اللاعبين بأفكار واعتقادات لم تعد واقعية بحكم تطور الأمور وتأثير الملفات على بعضها. وأظهرت بعض الأحداث الحاجة لإعادة تقييم للمواقف وبرامج التسلح والعلاقات السياسية والعسكرية بين اللاعبين الإقليميين.
أهم ما يجب إعادة النظر فيه هو المزاج النفسي للمجتمع الإسرائيلي الذي شعر غالبيته بتهديد وجودي غير مسبوق، وهو ما وفّر لحكومة بنيامين نتنياهو اليمينية دعماً للاستمرار في حربها ضدّ غزة ولسياساتها الضارّة بعملية السلام وحل الدولتين. ولم تفلح الجهود الدبلوماسية والضغوط التي تقوم بها واشنطن وحلفاؤها في الغرب، بإقناع نتنياهو بأي اتفاق يؤدي لإنهاء الحرب والقبول بخطة لغزة في إطار حل الدولتين. وعليه، فإنّ الحرب ستستمر إلى أن يتغيّر المزاج في الشارع الإسرائيلي وتفقد الحكومة الأكثرية في الكنيست، الأمر الذي سيقود إلى انتخابات تشريعية قد تُحدث تغييراً كبيراً، أو تبقي الواقع على حاله. فلا ضمانات بأي انتخابات مستقبلية في إسرائيل.
وكشفت سياسات ومخططات الحكومة الإسرائيلية بتدمير البنية التحتية ومقومات الحياة في غزة والضفة الغربية، مدى استعداد أحزاب اليمين الإسرائيلي الذهاب في سعيها لنقل الفلسطينيين إلى دول مجاورة وخلق واقع ينهي حل الدولتين. وتستمر الحكومة في محاولات تطبيق هذه السياسة رغم الرفض العربي- الغربي والدولي لها. كما أن غضب الرأي العام في الغرب، والذي تمثل في حركات الاحتجاج في الجامعات والتظاهرات الحاشدة، يعكس هشاشة مواقف الحكومات الغربية التي لا تزال تحاول دعم إسرائيل. فهي تدرك أن ثمن التأييد الأعمى لحكومة اليمين الإسرائيلية قد يؤدي لخسارتها الانتخابات المستقبلية. وهذا يقلق النخب في تل أبيب.
وأظهرت الحرب قدرات إيران الواسعة على إشاعة الفوضى في العالم العربي وإغلاق الممرات المائية الاستراتيجية فيه. وارتباط حماس الوثيق والاستراتيجي بإيران أظهر للقيادات العربية أن أي مكسب لحماس هو نصر لإيران. وتعمل الدول العربية على اعتماد سياسة موحّدة، تُظهر الدعم القوي للشعب الفلسطيني ولمبادرات وقف إطلاق النار وتوحيد القيادة الفلسطينية، من دون تأييد حركة حماس ومباركة أي من خطواتها التي تُعتبر في مصلحة سياسات إيران في المنطقة. وإصرار الدول العربية على منظمة التحرير كممثل شرعي وحيد للفلسطينيين، هو رفض غير مباشر لأي دور لحماس في حكم غزة بعد انتهاء الحرب.
وإذا ما تمّ جمع التغيّر في مزاج الشارع الإسرائيلي وتأييده لاستمرار الحرب حتى تحقيق أهداف حكومة نتنياهو، مع الموقف العربي من ارتباط حماس مع إيران، فإنّ الاستنتاج الذي يتمّ استخلاصه هو أن قيادة حماس لا تزال تعيش في ماضٍ غير مرتبط بالواقع الحالي، وبالتالي تصرّ على شروط في المفاوضات مرفوضة من معظم القوى الفاعلة إقليمياً ودوليا، وهذا يؤثر سلباً على غزة وسكانها والقضية الفلسطينية.
أما عسكرياً، فإنّ الحرب أظهرت تغييراً مهمّاً في عقيدة الجيش الإسرائيلي، والتي كانت قائمة على الحسم السريع للحرب وتجنّب الدخول في حروب استنزاف. فالجيش الإسرائيلي ينتهج سياسة الأرض المحروقة واستنزاف الخصم ويلجأ لكثافة النيران، بخاصة الجوية، في ضرب الفصائل الفلسطينية في غزة، رغم أنها حرب غير متكافئة ويجب أن تكون حرب شوارع.
الحرب البرية يجب أن تكون قائمة على ثلاث خطوات: التقدّم نحو الهدف ومن ثم تطهير المنطقة تحضيراً للسيطرة عليها. لكن القيادة الإسرائيلية تعمد لسحب هذه القوات فور تنفيذ عمليات تطهير محدودة لتجنّب بقائها وخوض حرب شوارع للقضاء على خلايا المقاومة وتثبيت سيطرتها. فهكذا عمليات ستؤدي إلى خسائر بشرية كبيرة لن يتحمّلها الشارع الإسرائيلي. هذا يعني أنّ حروب إسرائيل لم تعد سريعة كما عُرفت به سابقاً، وستكون أكثر كلفة مادياً وتعتمد على الاستنزاف.
أما في ما يخص “حزب الله”، فإسرائيل تعتمد استراتيجية الاستنزاف أيضاً، مع التركيز على نوعية الأهداف العسكرية. فمن ناحية تقوم بتدمير ممنهج لقرى وبلدات في جنوب لبنان، ومن ناحية أخرى تستهدف البنية التحتية للحزب إضافة للقيادات الميدانية. وهذا يعكس نية إسرائيلية لإفقاد “حزب الله” القيادات النخبوية والنوعية من أصحاب الخبرة، للتأثير على فعالية تحركات الحزب العملياتية.
أما من جانب “حزب الله”، فهو يدرك محدودية قدرات صواريخه على اختراق الدفاعات في العمق الإسرائيلي، ولذلك يحصر هجماته في الأهداف الحدودية، حيث تقلّ فعالية الدفاعات بشكل كبير نظراً لقصر المسافة وضآلة الإنذار المبكر الإسرائيلي. ويستخدم “حزب الله” أسلحة نوعية في تكتيكات خلّاقة، إذ يشن هجمات ناجحة بطائرات مسيّرة هجومية بشكل متزامن مع مسيّرات انتحارية وصواريخ موجّهة مضادة للدروع على منشآت عسكرية ومنظومات دفاعية. لكن يبقى حجم الخسائر كبيراً جداً في جنوب لبنان وفي صفوف “حزب الله”، مقارنة بالخسائر على الجانب الآخر، وبالتالي فإنّ ميزان القوى والقدرة التدميرية لصالح إسرائيل تعطيها أفضلية في حرب الاستنزاف التي مضى عليها أكثر من 7 أشهر، ولا أحد يدرك متى ستنتهي.
كما أظهر قرار طهران بفتح الجبهات في المنطقة ومن ثم استهداف الأراضي الإسرائيلية بشكل مباشر، تعاظم نفوذ القوى المتشدّدة في الحرس الثوري الإيراني وتأثيرها على قرار الحرب والسلم. فإمكان قيام إيران بالردّ على أي هجوم إسرائيلي على مصالح أو سيادة إيران بات من الاحتمالات القوية ويجب أخذه بجدّية مستقبلاً. كما أن إستراتيجية الردع الإسرائيلية لم تعد ناجعة وبحاجة لمراجعة كاملة في صراعها القائم مع إيران ووكلائها، بخاصة مع تقدّم برنامج إيران النووي ووصوله إلى عتبة السلاح النووي. أما طريقة تعامل طهران مع الردّ الإسرائيلي، فأظهرت إدراكاً لتفوّق قدرات خصمها واستمرار سياسة تجنّب الحرب المباشرة مع أميركا وإسرائيل.
وكشف الردّ الإيراني الواسع على إسرائيل عن استراتيجية إيران الهجومية، عبر إطلاق موجات من الصواريخ والمسيّرات بشكل منسق، للتغلّب على الدفاعات الجوية. ويجمع الخبراء، بأنّه لو لم يكن لشبكة الدفاع التي وفّرتها الولايات المتحدة وحلفاؤها لإسناد الدفاعات الجوية الإسرائيلية، لتمكن عدد أكبر من الصواريخ والمسيّرات الإيرانية من ضرب أهداف في إسرائيل.
يجب على دول الخليج العربية التوقف عند هذا الأمر لأهميته، إذ يظهر أن لا دولة وحدها تستطيع مواجهة هجوم إيراني واسع النطاق، بخاصة أنّ المسافة الفاصلة عن الأراضي الإيرانية أقصر بكثير من المسافة إلى إسرائيل. وعليه فإنّ دول مجلس التعاون الخليجي مدعوة لإعادة إحياء برامج قديمة لتوحيد دفاعاتها الجوية وتلك المضادة للصواريخ، وحتى توسيعها، لتشمل دولاً أخرى مثل الأردن ومصر. فلا دفاع جوي أفضل من الدفاع المشترك.
أما في ما يخص أميركا، فقد كشفت الأحداث الأخيرة أنها لا تريد الدخول في حرب مباشرة مع إيران، ولا تريد فعلاً إنهاء وجود وكلائها، بل تريد الاستمرار في سياسة احتواء إيران ومحور الممانعة، لما تحققه من مكاسب لها على صعد عدة. هذا في وقت لم تلعب الصين أي دور ميداني في تعزيز أمن المنطقة، حتى في حماية الملاحة، لكنها تحاول تعزيز دورها في الملف الفلسطيني عبر تبنّيها خيار توحيد صف الفصائل الفلسطينية. وإذا ما نجحت فقد تأخذ بكين الدور الذي فقدته موسكو في الملف الفلسطيني- الإسرائيلي بعد مؤتمر مدريد.
* نقلا عن “النهار”