أولمبياد باريس.. ازدواجية المعايير وانحدار قيمي للحضارة الغربية

مروان أميل طوباسي

يُعتبر افتتاح أولمبياد باريس ٢٠٢٤ لحظة فارقة في تاريخ الحضارة الغربية، حيث بدت بوضوح علامات الانحدار في القيم والمفاهيم التي أسست لعصورها الذهبية من الثورة الصناعية إلى الديمقراطية والعدالة والحريات والمساواة، وخاصة منها المتعلقة بشعار الثورة الفرنسية. هذا الحدث من حفل الافتتاح أثار العديد من التساؤلات حول مستقبل الحضارة الغربية، وما تحمله من قيم، والعلاقة المفترضة مع تاريخ هذه الحضارة.
منذ بداية العصر الصناعي، كانت الحضارة الغربية رمزاً للتقدم والتطور، ولكن في افتتاح أولمبياد باريس يوم أمس، بدت علامات واضحة على انحدار قيم هذه الحضارة التي اعتمدت عليها البشرية في تطوير فلسفات إنسانية أخرى. لقد تم استحضار لوحة دينية تصور قيامة السيد المسيح الثائر الفلسطيني، ولوحة العشاء الأخير للفنان ليوناردو دافنشي، فتم استبدالهما بلوحة شاذة تعبر عن فكر وثقافة المثليين والمتحولين جنسياً.
هذا التغيير أثار الكثير من الجدل والاستياء، حيث تم اعتبار ذلك تشويهاً لرموز دينية وللفنون الإنسانية العريقة.
الحضارة الغربية التي كانت تعتمد على قيم الديمقراطية والعدالة والحريات بدأت تفقد هذه القيم تدريجياً، ما يظهر في العديد من المظاهر الثقافية والاجتماعية السائدة اليوم، كتعبير عن أزمة الليبرالية الجديدة المتوحشة ومفاهيم الرأسمالية.
ازدواجية المعايير أصبحت سمة واضحة في السياسات الدولية التي تتبعها الدول الغربية. في الوقت الذي تم فيه حظر مشاركة روسيا في الأولمبياد بذريعة قتل المدنيين في أوكرانيا، تم السماح لدولة الاحتلال والأبرتهايد الإسرائيلي بالمشاركة، رغم تنفيذها لجرائم تعتبرها المنظمات الدولية والحقوقية والإنسانية ومحكمة العدل الدولية إبادة جماعية، وجرائم حرب بحق الإنسانية. هذا التناقض يعكس ازدواجية المعايير في التعامل مع قضايا حقوق الإنسان والشعوب، ويضعف من مصداقية القيم التي تدعي الحضارة الغربية التمسك بها.
غياب روسيا عن الألعاب الأولمبية يعكس ليس فقط ازدواجية المعايير السياسية المنحازة في ظل الهيمنة الغربية على النظام الدولي، بل يؤثر بشكل كبير على الجانب الرياضي ومستوى الألعاب. روسيا كانت دائماً واحدة من الدول التي تحصد المراكز الأولى في العديد من المنافسات الرياضية، ولذلك فإن عدم مشاركتها اليوم يفقد الألعاب الأولمبية جزءاً من روح التنافسية العالية التي كانت تميزها سابقاً. حضور روسيا كان يضفي على المنافسات جواً من التحدي والقوة، ومع غيابها، تصبح المنافسات أقل إثارة وحماساً، ما يؤثر على جاذبية الألعاب الأولمبية كحدث رياضي عالمي.
اليوم، الحضارة الغربية تعاني من صراع داخلي بين تيارات مختلفة، فاليمين الشعبوي يدعم نظريات تفوق العرق الأبيض، ويعمل على تعزيز هذه الأفكار في المجتمع، بينما يتبنى يسار الوسط ويمين الوسط مفاهيم العولمة والليبرالية الجديدة، بعيداً عن جوهر فكر اليسار العلمي، حيث تسعى هذه التيارات ليس فقط إلى إبراز حقوق المثليين والمتحولين جنسياً، بل إلى تحويل المجتمع إلى حالة شاذة عن الطبيعة البشرية. هذا الصراع الداخلي يؤدي إلى انقسام اجتماعي وسياسي يعمق من أزمة الحضارة الغربية.
ولفهم التغيير الحاصل في حفل افتتاح أولمبياد باريس، من المهم مقارنة هذا الحفل الذي رفع فيه العلم الأولمبي مقلوبا في خطوة لا أعرف تفسيرها أو هدفها، إلا أنها تشمل برأيي نوعا من الإهانة الإضافية لفلسفة الألعاب الأولمبية، مع احتفالات افتتاح أولمبية سابقة. فقد كان حفل الافتتاح في موسكو ٢٠١٤ مليئاً بالرموز الوطنية والثقافية التي تعكس قيم الحضارة الشرقية مثل الوحدة والقوة والسلام، وفيها تم تسليط الضوء على التاريخ الثقافي والحضاري لروسيا، وقبلها للثقافات المتنوعة الشرقية لحمهوريات الاتحاد السوفيتي، ما يعكس احتراماً للتقاليد والقيم الوطنية.
أما حفل افتتاح أولمبياد لندن فتمثل في إبراز التنوع الثقافي والابتكار، حيث تم الاحتفاء بإنجازات الثورة الصناعية والإسهامات الثقافية لبريطانيا. وفي طوكيو ركز حفل الافتتاح على تقديم التكنولوجيا والابتكار الياباني، إضافة إلى احترام التقاليد الثقافية اليابانية، ورغم التحديات التي واجهتها اليابان بسبب جائحة كوفيد- ١٩ في حينه، نجح الحفل في إرسال رسالة إيجابية حول التفوق العلمي والإنساني. حفل افتتاح أولمبياد بكين سابقاً ركز على العظمة التاريخية للصين وإسهاماتها الثقافية والعلمية كمكون من ثقافة الشرق على مر العصور، وكان الاحتفال تحية لتاريخ الصين العريق وثقافتها الغنية، ما عكس فخراً وطنياً وقيم الوحدة والتطور.
للوقوف على التراجع الحالي، من الضروري استعراض الفلسفة الأولمبية الأصلية، حيث تأسست الألعاب الأولمبية في اليونان القديمة على قيم التفوق البدني والعقلي، والوحدة بين الشعوب والسلام، وكانت الألعاب تتوقف في حالة الحروب، أو تتوقف الحروب فترة الالعاب. كانت تهدف إلى معاداة الحروب وتعزيز الروح الرياضية والتنافس الشريف، وتعتبر احتفالاً بالقدرات الإنسانية والتكامل بين الجسم والعقل. الألعاب الأولمبية الحديثة، التي أعيد إحياؤها في القرن التاسع عشر، استندت إلى نفس القيم الأساسية مع التأكيد على السلام والتفاهم الدولي. ولكن ما حدث في افتتاح أولمبياد باريس يعكس تراجعاً عن هذه القيم الأساسية، إذ أن التركيز على قضايا سياسية مثيرة للجدل وتشويه القيم الاجتماعية والرموز الدينية يبتعد عن الفلسفة الأصلية للألعاب الأولمبية بدلاً من تعزيز الوحدة والسلام، فتثير مثل هذه الأحداث الانقسام والصراع.
مثل هذه الأحداث يمكن أن تؤدي إلى فقدان الثقة في القيم الغربية التي كانت تعتبر في السابق أساساً للتقدم والازدهار.
وهنا، أعتقد أن علينا نحن الفلسطينيين أن نحتجّ على هذا التشويه الذي يتناقض مع تعزيز الرواية والرؤية للسيد المسيح كأول ثائر فلسطيني، حسب وصف الخالد ياسر عرفات له، وكرمز وطني ديني لنا ولشعوب عديدة.
فما جرى في افتتاح أولمبياد باريس يُعتبر هجوماً على الرموز الوطنية والدينية، ويجب مواجهته بالوعي والاحتجاج.
يجب على الشعوب أن تعي أهمية رموزها الثقافية والدينية وأن تدافع عنها في وجه محاولات التشويه والطمس التي يسعى لها الاحتلال الإسرائيلي، كجزء من مكون الغرب الاستعماري وثقافته .
إن حفل افتتاح أولمبياد باريس يعكس بشكل واضح مدى التراجع في القيم والمفاهيم التي كانت الحضارة الغربية تفخر بها. إن ازدواجية المعايير في السياسة الدولية والصراع الداخلي بين التيارات المختلفة يؤكدان أن هذه الحضارة تسير نحو الانحدار. علينا كأفراد وشعوب أن نكون واعين لهذا التراجع وأن نعمل على تعزيز قيمنا ورموزنا وتاريخنا، ورؤيتنا الإنسانية التقدمية لمستقبلنا الحضاري في مواجهة هذا الانحدار.
إن التركيز على قضايا سياسية مثيرة للجدل وتشويه القيم الاجتماعية والرموز الدينية يبتعد عن الفلسفة الأصلية للألعاب الأولمبية بدلاً من تعزيز الوحدة والسلام، فتثير مثل هذه الأحداث الانقسام والصراع.

شاهد أيضاً