السياسي – لم تختلف المواقف الرسمية العربية والغربية من استمرار الإبادة الجماعية في غزة كثيرا، بعد استشهاد القائد إسماعيل هنية عما كانت قبل اغتياله، لكنها زادت من فضح وتعرية تلك المواقف المتواطئة مع العدو الصهيوني، والمشاركة في منع الغذاء والدواء عن سكان غزة، وكما سكتت عن استمرار تدفق دماء الأطفال والنساء، فقد سكتت أيضا مع نسف صهريج المياه بمدينة غزة، وعند اغتيال المفاوض هنية الذي يسعى منذ عدة أشهر لوقف الحرب لإحلال السلام.
وها هي المواقف العربية الرسمية تكشف عن انحدار أخلاقي غير مسبوق، حيث أن واجب العزاء أمر أساسي في التقاليد العربية والإسلامية، فما بالنا بالعزاء في شهيد ورئيس وزراء فلسطينى سابق ورئيس للمكتب السياسي لفصيل مقاوم يمارس دوره النضالي لتحرير فلسطين منذ 27 عاما، حتى أمين عام الدول العربية لم ينعَ الشهيد واكتفى بالتحذير من أن الاغتيالات تخرج على القانون الدولي، رغم أنه عندما اغتيل رئيس الوزراء الأسبق إسحاق رابين في تشرين الثاني/ نوفمبر 995، شارك في جنازته الرئيس المصري حينذاك حسني مبارك والملك حسين، ووفود ثلاث دول عربية أخرى والعديد من قيادات الدول الغربية،
رغم أنه كان من كبار قادة الهاجاناه الذين ارتكبوا المذابح ضد الشعب الفلسطينى بحرب 1948، وكان مهندس عملية تهجير الفلسطينيين، ورئيس أركان الجيش الإسرائيلي في حرب 1967 التي احتلت إسرائيل خلالها أراضي ثلاث دول عربية.
وتكرر الأمر بجنازة الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز في أيلول/ سبتمبر 2016، والتي شاركت فيها وفود من الأردن والمغرب ومصر والرئيس الفلسطيني محمود عباس، رغم تولي بيريز منصب وزير الدفاع قبلها ومسؤوليته عن بدء الاستيطان في الضفة الغربية، وقصف مخيم للأمم المتحدة في مذبحة قانا في لبنان عام 1996.
وإذا كان عدد قليل من القادة في قطر وتركيا وماليزيا وباكستان قد شاركوا في صلاة الغائب على روح الشهيد إسماعيل هنية، كما قامت تظاهرات منددة باغتياله في عدد من العواصم العربية والإسلامية، إلا أن الغالبية من تلك العواصم كان غير مسموح للجماهير فيها بإقامة صلاة الغائب أو تلقي التعازى فيه، كما كان يحدث قبل سنوات عند اغتيال قيادات فلسطينية بارزة، وهو ما يشير بوضوح إلى أن الحصار لا يقتصر على سكان فلسطين في غزة والضفة الغربية، ولكنه يمتد إلى العديد من الدول العربية والإسلامية، والتي وظفت وسائل إعلامها للنيل من الشهيد والمقاومة.
التصدي لعوامل الإحباط مهمة رئيسية
وحتى الدول التي سمحت لمواطنيها بالتعبير عن مشاعرهم تجاه الاغتيال، فقد قامت منصات التواصل الاجتماعي بحذف ما يتعلق باسم هنية أو حماس، أو كلمات لأشخاص من أسرة الشهيد أو نحو ذلك من صور المشاركة الوجدانية، ولهذا أصبح مطلوبا السعي لإيجاد منصة للتواصل الاجتماعي بديلة غير منحازة؛ تتيح للشعوب الحرة التواصل على صفحاتها.
وإذا كنا قد تأكدنا من خذلان الحكومات والجيوش العربية لغزة، فإن نفس التأكد يجب أن يمتد إلى مواقف الدول الغربية التي ستظل منحازة للجانب الإسرائيلي متجاهلة ما يرتكبه من مذابح، بل إن هناك قناعة لدى الكثيرين بأن تلك الدول بصمتها تهدف لإبادة أكبر عدد من الفلسطينيين، مثلما فعلت مع البوسنة حين أجّلت تدخلها لفترة حتى يباد عدد أكبر من المسلمين هناك، باعتراف مفكرين غربيين حينذاك.
وحتى لا نبكى على اللبن المسكوب لا بد من النظر إلى ما بعد هنية، الذي قدم حياته وحياة أكثر من 60 شخصا من عائلته فداء للقضية، ومن ذلك التركيز على التصدى لعوامل إثارة الإحباط واليأس التي تسعى إليها إسرائيل والأنظمة العربية المتواطئة معها، سواء من خلال الطعن بالمقاومة بواسطة مشايخ مأجورين أو غيرهم، أو ترديد مزاعم العدو عن اغتيال محمد الضيف، والإغفال المتعمد لما تحققه المقاومة من خسائر بأفراد وآليات العدو الإسرائيلي.
كذلك لا مفر في المرحلة الحالية من التعويل على دور قوى المقاومة في كل من لبنان واليمن والعراق لتشتيت جهد العدو من التركيز على غزة وحدها، وعدم الالتفات للنعرات الطائفية وتبديد الجهد خلالها، فالمقاومة الغزاوية محاصرة من الجميع، إسرائيليين وعربا وأوربيين وأمريكان وهنودا وغيرهم، فإذا قدم لها أي طرف عونا فليتم الترحيب بهذا الدعم أيا كانت أهدافه، مثلما حدث مع المقاومة في فيتنام وغيرها، والحذر من الفتن التي تستهدف الإيقاع ما بين الشعوب في المنطقة.
السلاح والمال والغذاء والعلاج أولا
كذلك تقتضى المرحلة الحالية وبعد عشرة أشهر من عملية طوفان الأقصى ألا نعول كثيرا على الأمور الثانوية بإعتبارها إنجازا، بينما يواصل العدو مذابحه الدموية بلا انقطاع، ومن ذلك تصريحات بعض الحُكام أو الملاسنات التي تتم بين مسؤولين في بعض الدول الإسلامية ومسؤولين إسرائيليين، صحيح أنه أمر جيد أن يتم إعلان الحداد على روح الشهيد هنية أو تنكيس الأعلام حزنا على وفاته، أو وقف بث منصة إنستغرام اعتراضا على منعها للتدوينات المناصرة لهنية، أو استنكار موقف منصة فيسبوك التي منعت تدوينه لرئيس وزراء ينعى فيها هنية،
أو الدعوة لصلاة الغائب على الشهيد في المساجد.. كل تلك المواقف جيدة لكنها قاصرة ومحدودة الأثر مع شعب يتم قتله على مدار الساعة منذ عشرة أشهر. ومن هنا يحتاج الأمر إلى مواقف أكثر عملية للتعبير عن التضامن مع القضية الفلسطينية.
وهكذا يجب التركيز في المواقف من قبل الشعوب العربية والإسلامية المساندة لفلسطين على ما يصل بشكل حقيقي لسكان غزة والضفة الغربية، ويعينهم على استمرار الصمود بعد أن تحملوا أكثر من طاقتهم خلال الشهور والسنوات الماضية بسبب الحصار، ليصبح التركيز على كيفية إدخال الغذاء والدواء والمستلزمات الطبية والوقود والخيام والكهرباء لسكان غزة، وإدخال الأموال إليهم كي يستطيعوا شراء الطعام من خلال ما يتم تهريبه.
لتكن كل الجهود متجهة لكيفية تخفيف المتاعب الحياتية عن هؤلاء الذين لن يسد جوعهم أو يشفي جراحهم تلك التصريحات الرسمية المتكررة عبر الشهور الماضية. فتخفيف معاناة سكان غزة أمر أساسي لاستمرار المقاومة، من أجل المزيد من إنهاك قوى العدو وزيادة حدة الصراع بين مكوناته ودفع بعض شرائحه إلى البحث عن موطن آخر، والتصدي في نفس الوقت لما يحاك له من مؤامرات عربية وغربية.